لا بد من أن نبدأ هذا المقال بالافتخار، وبالثناء على الصمود البطولي والحراك المستمر والمسؤول لأهالي مدينة القدس وشبابها، وكل مرجعياتها الوطنية والدينية الذي بددوا جميع التكهنات بأن الاحتلال أخرج هذه المدينة من دائرة الصراع. فالكل يعلم بأن القدس لا ينقذها مقال أو تصريح أو خطبة عصماء، أو ما إلى ذلك من الكلام غير المتبوع بفعل جدي ومؤثر، يُشعر المقدسيين بأنهم ليسوا وحدهم في المعركة، وهذا الشيء الطبيعي، لأن هذه المدينة هي عاصمة الدولة العتيدة، وهي رأس وقلب وعقل الجسم الفلسطيني، وهي أساس المشروع الوطني.
لا أريد أن أسرد أو أعطي وصفا لما جرى ويجري الآن في هذه المدينة من اسرلة وتهويد، بطرق بشعة وبقوالب قانونية باطلة، ولا أريد أيضا أن احذر من السياسات والإجراءات التي يتبعها الاحتلال في سبيل فرض سيطرته التامة على القدس وتفريغها من سكانها، ولكن أريد أن أقول بأن الوقت قد حان لوضع خطة مواجه لأن التأخير في هذا سيقودنا إلى فقدان كل شيء، ولن نجد قدسا لندافع عنها.
فالمطلوب الآن وقبل كل شيء الإصرار على استكمال خطوات إنهاء الانقسام، وتطبيق كل ما تم الاتفاق عليه في سبيل ذلك، وأن لا يكون ما حصل في غزة من تفجيرات سببا في إعادتنا إلى مربع الانقسام، فرغم فداحة الجرم، علينا أن نكون جميعا على قدر المسؤولية وأن نكظم غيظنا، ونمضي نحو وحدتنا، كي لا ننساق، وبدون إدراك، مع أعداء المشروع الوطني، الذين أرادوا بهذا العمل المستنكر أن يفجروا طريق الوحدة والخلاص من الاحتلال، كما أرادوا أيضا أن ينسفوا تاريخ أبو عمار ووصاياه بالتمسك بالوحدة الوطنية، والحفاظ على مدينة القدس والدفاع عنها.
إن ما تحتاجه القدس الآن هي خطة عمل تستجيب مع احتياجات المدينة وأهلها وتعزز صمودهم في بيوتهم ومحلاتهم ومؤسساتهم، وهذا يحتاج إلى استنهاض طاقات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ومن ثم التوجه بعدها إلى عمقنا العربي والإسلامي، وإلى مسيحيي العالم للدفاع عن هذه المدينة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تحويل هذا الصراع إلى صراع ديني، بل الحفاظ على بعده القانوني والسياسي، لأن تحويل الصراع، إلى صراع ديني، وهو ما تحاول الحكومة الإسرائيلية ورئيسها فعله، سوف يفرغ القضية الفلسطينية بشكل عام من محتواها، وسيدخلنا في مرحلة جديدة لن تعود إلا بالدمار على مشروعنا الوطني، الذي أساسه الوصول إلى حقوقنا المشروعة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة الكاملة بعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين وفق القرار الأممي رقم 194.
لا شك بأن هناك الكثير من الخطط التي وضعت من أجل النهوض بواقع هذه المدينة والحفاظ على طابعها التاريخي ببعده الإسلامي والمسيحي، وهناك العديد من الصناديق التي أنشأت في سبيل دعم صمود المدينة وأهلها، ولا نريد الخوض في مدى تطبيق هذه الخطط، وما قدمته هذه الصناديق مشكورة لهذه المدينة، ولكن ما نريده الآن هو تفعيل كل ذلك من اجل القدس وحمايتها فالوقت الآن يمر، والجرائم الإسرائيلية تزداد وتتكثف وتتواصل بشكل ممنهج ومدروس، بحق العاصمة والأرض المحتلة بشكل عام.
فالفعل السياسي المطلوب هو الوحدة والانسجام، والذي لا بد وأن يوازيه فعلا آخرا على الأرض وهو الدعم المادي الهادف إلى تنمية المدينة وتطويرها والحفاظ على طابعها العربي الفلسطيني، وهذه مسؤولية جماعية على الكل الفلسطيني في الوطن والشتات أن يتشارك في تحملها بقدر استطاعته، بدء بمنظمة التحرير الفلسطينية، مرورا بالسلطة الوطنية الفلسطينية، والأثرياء الفلسطينيين أينما تواجدوا، والقطاع الخاص الفلسطيني بكل مكوناته، وانتهاء بأصغر طفل فلسطيني، فالكل الآن مدعو لتقديم الدعم المادي لهذه المدينة.
لقد عملنا في نهاية العام المنصرم على التحضير لإنشاء صندوق ووقفية القدس، وتم الإعلان عنه في اجتماع عام برعاية ومشاركة الأخ الرئيس أـبو مازن في نهاية نيسان من العام الحالي، وتم أخذ التزامات مالية من قبل بعض المؤسسات والأفراد وهي بحاجة إلى تطوير لكي يتم الانطلاق بهذا الصندوق إلى الفضاء العربي والإسلامي والدولي، ونعلم أننا تأخرنا قليلا في خطواتنا لاستكمال ما بدأنا به، وكان جزء من هذا التأخير بسبب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ولكن قريبا سيكون هناك أول اجتماع لمجلس إدارة الصندوق والوقفية كخطوة أساسية للبدء بترجمة الخطط والسياسات والعمل وبشكل فعلي على الأرض.
وصندوق ووقفية القدس هي هيئة مستقلة، أخذت المبادرة في العمل لدعم هذه المدينة وعلى توحيد الجهود وتنسيقها وتفعيلها، ولدى الصندوق والوقفية خطة متكاملة بنيت على أساس مجموعة من الخطط التي كانت موضوعة سابقا وتم تطويرها بما يتناسب مع المتغيرات على الأرض، وكذلك سيعمل الصندوق والوقفية بالتعاون والتنسيق مع الصناديق والمؤسسات الأخرى ذات العلاقة من أجل مصلحة القدس وبما يتجاوب مع احتياجاتها، وهو مكمل لما تم انجازه سابقا.
علينا العمل من الناحية الوطنية لترتيب بيتنا الداخلي، وعلينا أيضا وبالتوازي تأمين وتوفير الدعم المادي للمدينة ضمن خطط تنموية واضحة ومحددة، وهذين الأمرين يشكلان أساسا مهما للاستفادة من حالة النهوض الحالية لأهل هذه المدينة، الذين وقفوا للدفاع عنها وعن مقدساتها، رافضين إرهاب الاحتلال مؤكدين بأن سياساته لن تغير الواقع الجيوسياسي في المدينة، وبأن إنهاء الاحتلال هو الضامن الوحيد لإنهاء الصراع.
علينا احتضان حالة النهوض هذه وتطويرها بما يخدم المشروع الوطني، وبما يتناسب وقدراتنا الذاتية، ويضمن لنا أكبر تضامن معنا من الرأي العام عربيا وإسلاميا وعالميا رسميا وشعبيا، فإذا ما عملنا على ذلك فإن مقومات المواجهة والصمود ستكتمل بأقل الخسائر البشرية والمادية، هذا بالإضافة إلى تفعيل وتطوير ودعم حركة المقاطعة لإسرائيل (BDS).
أعلم وكما يعلم الكثيرون بأن الوقت يمضي وتمضي معه ملامح المدينة، وبأن القدس بحاجة ماسة الآن للدعم السياسي والمادي، ولن تنتظر اكتمال الوحدة أو جمع الأموال من أجلها أو تشكيل الصناديق أو ما إلى ذلك، ولكن هذا هو الواقع للأسف، وعلينا أن نغيره بعملنا وجهدنا حتى لا تضيع المدينة ويضيع معها الوطن، فالمطلوب الآن وبشكل فوري استنهاض دور المؤسسات المقدسية على اختلاف تسمياتها وبخاصة الشبابية منها والرياضية وفرق الكشافة وغيرها من فعاليات ثقافية واجتماعية لتكثيف أنشطتها في المدينة، كذلك تكثيف الزيارات للقدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وبخاصة إلى المسجد الأقصى سواء من فلسطينيي الداخل، أو من استطاع من فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1967، أو حتى من استطاع من فلسطينيي الشتات والعرب والمسلمين، وذلك لخلق حالة حراك يومي كأحد الأدوات السلمية الفاعلة في مواجهة سياسات الاحتلال هناك.
القدس تستحق أكثر، فهي من الناحية الوطنية تعني كل شيء، ومن الناحية الدينية والتاريخية تعني الكثير الكثير، وما تتعرض له مقدساتها الآن وبخاصة المسجد الأقصى ومحاولات تقسيمه زمانيا ومكانيا يستحق من الجميع وقفة جدية ومسؤولة وفعل محسوس وفوري، من قبل ليس فقط الفلسطينيين، والمملكة الأردنية الهاشمية التي لها الولاية الدينية على المقدسات الإسلامية في مدينة القدس، وإنما أيضا من كل الدول العربية والإسلامية وباقي دول العالم، لأن استمرار الوضع الحالي سيفجر المنطقة برمتها، والسكوت عما يجري الآن بالقدس هو جريمة كبرى أخلاقية وسياسية، وعلى المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية أن تتحمل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية، وتقف في وجه ممارسات وجرائم الاحتلال، حتى لا يبقى الشعب الفلسطيني وحيدا في الميدان ويفعل ما فعله شمشون في المعبد، مع اختلاف التشبيه والهدف.
نعم فالقدس تستحق منا أكثر، فعندما نقول القدس فذلك يعني الدين والتاريخ، الشهادة والأسر، ياسر عرفات وأحمد ياسين وكل الشهداء الذين ارتقوا دفاعا عنها، فلتكن الذكرى العاشرة لاستشهاد الرمز ياسر عرفات القائد الجامع الذي عشق القدس واستشهد في سبيلها، نقطة تحول فاصلة في تعاملنا مع القدس وقضاياها ونقول كما قال أبو عمار ورددها في معظم أقواله وكتبها على ألواح صفوف المدارس ليرسخها في عقول وقلوب الأجيال “معا وسويا نحو القدس”.