قليلة هي الأخبار الطيبة التي تصلنا من العالم العربي، في هذه المرحلة الغاصّة بكل ما يوجع القلب ويدعو إلى اليأس. وحدها تونس تبدو بمثابة الاستثناء الوحيد على القاعدة؛ كأنها العصفور الجميل المغرد خارج سرب الطيور الجارحة. ولعمري إن في هذا شيئا كثيرا من العزاء للنفس التي لوّعتها أخبار القتل والاصطراع، وأثقل عليها انفلات موجة الإرهاب من العقال، ناهيك عما يملأ المشهد العربي من انهيارات واستباحات وانسداد آفاق.
لا نود أن نطيل الحديث عن السابقة التونسية الأولى؛ أي عن “ثورة الياسمين” التي بشرت بالربيع العربي قبل أربع سنوات، وغيّرت تداعياتها وجه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهذه الدرجة أو تلك. فقد قيل عن تلك الثورة السلمية، وكتب حولها ما يكفي من استحسان وإطراء، ورافقها ما يفيض عن حاجة المتلقي لاسترجاع تلك المشاهد المثيرة للخيال في شارع الحبيب بورقيبة الشهير؛ تلك المشاهد التي أسست لمرحلة جديدة في الزمان العربي الكئيب.
تلك كانت المرة الأولى التي فاجأت فيها تونس عالمها العربي وسط دهشة الجميع، بمن فيهم التونسيون أنفسهم. لذلك، ستقتصر معالجتنا هذه على الفعلة الفارقة الثانية، التي أتت من ذلك البلد الصغير؛ بلد محمد البوعزيزي الذي أضاء حريق جسده ناراً مقدسة في الهشيم العربي، ونعني بذلك نجاح أول انتخابات تعددية شفافة ونزيهة، على قاعدة دستور توافقي عصري يرقى الى مستوى أعرق الدساتير الديمقراطية في العصر الحديث.
لقد أتت الفعلة التونسية الثانية باعثة على السرور في تونس، وفي المحيطين المجاور والبعيد؛ وحافلة بالدروس والعظات الثمينة للحكام والشعوب. وجاءت فوق ذلك كله داحضة للكثير من الأوهام المترعة بالبياض، وللعديد من الافتراضات السقيمة وللتعللات المريضة، وغير ذلك مما علق في الأذهان من استنتاجات خاطئة، جراء ما اعتور “الربيع العربي” من مظاهر مقلقة، وما ساد فيه من استعصاءات أفضت إلى كل هذه الفوضى وهذه الدماء.
بكلام آخر، فقد استردت ثورات “الربيع العربي” اعتبارها من هذا الإنجاز الديمقراطي الجميل، بعد أن تم وصف “الربيع” بأنه شتاء إسلامي، وبعد أن غرق في بحر من الارتدادات السلبية في كل من سورية وليبيا واليمن على وجه الخصوص. كما أكدت هذه السابقة التونسية الثانية أن الديمقراطية في بلادنا العربية ممكنة، على عكس كل التقولات العنصرية المستشرية لدى البعض؛ إذ صادقت هذه التجربة، بعد مخاض عسير، على صحة المقولة الشعبية القديمة القائلة إنه “لا يصح إلا الصحيح”.
ولعل من بين أثمن الحقائق التي أتت في أعطاف هذا الإنجاز التونسي الباهر، حقيقة أن تيار الإسلام السياسي الذي بلغ ذروة صعوده مع فجر ثورات “الربيع العربي”، ليس قدراً مقدّراً لشعوب هذه المنطقة، وأن هذا التيار هو الرافعة الوحيدة لعملية الانتقال من عهد الفساد والدكتاتورية إلى عصر الإصلاح الديمقراطي والحرية؛ إذ تمكنت ما يسميها التونسيون بالأسرة الديمقراطية (ليبراليون ويساريون وعلمانيون وقوميون وديمقراطيون وطنيون) من استعادة زمام التغيير سلمياً عبر صناديق الاقتراع.
وأحسب أنه ما كان لتونس أن تتمكن من اجتراح فعلتها الثانية هذه، بكل رشاقة وسلاسة، لو لم تكن مصر قد تمكنت، قبل ستة عشر شهراً، من إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي لذات التيار في بلاد النيل، وبيان الميول الاستبدادية والإقصائية المعشعشة في قلب الظاهرة الأصولية في بلدها الأم. فبعد أن نجحت الثورة المصرية الثانية في تجفيف النهر من منبعه الأول، جفّت كل الروافد الفرعية هنا وهناك وهنالك، أو أنها في سيرورتها إلى الجفاف.
على أي حال، فإنه بقدر ما كانت ثورة تونس بمثابة بشرى طيبة للتيار الإسلامي في عموم البلاد العربية، ها هي تونس اليوم تقدم نذيراً قوياً لهذا التيار الذي أفرط كثيراً في الاعتداد بالنفس، ثم انزلق سريعاً إلى الاستقواء على الشركاء، وراح يمارس سياسة التفرد والإقصاء، كي يجني في نهاية مطاف قصير على “الربيع العربي” وعلى نفسه أيضاً، وفق ما تشير إليه إرهاصات التراجع والانكفاء المتزايدة، بما في ذلك في البلدان التي لم يزرها “الربيع”.