نستذكر في هذه المناسبة المباركة المبادئ السامية والقيَم العظيمة التي أتت بها الرسالة النبويّة الشريفة. يقول الله تعالى في وصف الرسول (صلى الله عليه وسلم): «وإنّك لَعَلَى خُلُقٍ عظيم.» (سورة القلم: الآية4).
وفي إيجازه لمهمّة رسالته، يقول (صلى الله عليه وسلم): «إنّما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق». فكان مثالاً حيًّا في الصدق والأمانة والعفو والحلم؛ بلّغ رسالة الإسلام الداعية إلى قيم العدل والحق والسلام والشورى والغيريّة وصون الكرامة الإنسانية، التي احتضنت التنوع الديني والثقافي، وأرست دعائم التعايش والاحترام بين أفراد المجتمع الواحد وبين الشعوب؛ سواء بسواء. كما أكّدت أن الحياة حق مقدّس للجميع.
وبعد الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، صدرت وثيقة المدينة المنورة التي تعد دستوراً تاريخياً مكتوباً؛ تساوى فيها المواطنون على اختلاف الأعراق والأنساب والديانات. واجتمع فيها العربي والرومي والفارسي والحبشي والمسلم والمسيحي واليهودي، فأعلنت الوثيقة أن هؤلاء جميعًا أمة من دون الناس. كما أثبتت دولة المدينة بهذه التعددية الدينية والعرقية والمذهبية أن الانفتاح لا يعني الذوبان في الآخر، وأن وجود الآخر لا يعني إلغاء الذات، وأن التنوع هو الذي يحمي الهوية؛ وما من شيئ يهددها أكثر من الانغلاق والتبعية.
ومما يدمي قلب كل مراقب لأحوال الأمّة وغيور عليها ما تشهده اليوم من فرقة وضعف واقتتال بين أبنائها وابتعاد عن الرسالة الحقيقية للإسلام كما بلّغنا إيّاها خاتم الأنبياء والمرسلين. لقد أصبحت مشاهد القتل والذبح والترهيب واستباحة المقدسات تتكرّر بصورة مقلقة تنتهك وجدان المسلم وتجهز على وعيه وتزعزع ثقته بالدور الحضاري الذي يجب أن ينهض به اليوم. إنّ العنف والكراهية والتزمت ظواهر غير صحيّة تُعمي أبصارنا عن إنسانيّة الآخر، وتحطّ من شأننا أمام الله والبشرية جمعاء. كما أنّها العدوّ الطبيعي للسلام والمساواة والإنصاف والتنمية.
وفي هذا الخضم المتلاطم من الصراعات والأحقاد والمصالح والممارسات اللا إنسانية تحت ستار الدين وبذريعة التديّن، يجب ألا تغيب عن خاطرنا فلسطين، وهي القضية المصيرية الأولى منذ قيام الثورة العربيّة الكبرى. فلا ننسى أن الشريف الحسين بن علي – رحمه الله – هو أول من دعا إلى منح الشعب العربي الفلسطيني حق تقرير مصيره في أرضه ووطنه. ويقوم في القدس ضريحه ليشهد على التزامه بوحدة تراب فلسطين. كما استشهد جدي الملك المؤسس عبد الله الأول – طيّب الله ثراه – على أبواب المسجد الأقصى المبارك.
وهنا، كيف لا نستذكر بكلّ ألم ومرارة وحرقة ما آلت إليه مدينة القدس الشريف، مسرى الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهي لا تزال ترزح تحت الاحتلال منذ ما يقارب الخمسة عقود؟
لقد كان الوصول الآمن إلى المسجد الأقصى متاحًا لجميع المسلمين في كل الأزمان والعصور (باستثناء الفترة الصليبية). إلا أنّه اليوم قد أصبح، في كثير من الحالات، متعذرًا على مئات الملايين من المسلمين بمن فيهم الفلسطينيون، وشباب مدينة القدس كافة. ومن المحزن أن نراهم يؤدون الشعائر الدينية على الأرض الصلبة في الشوارع والساحات العامة خارج أسوار المدينة المقدسة، وهم يتعرضون للقمع والمضايقة من جنود الاحتلال، الذين يقفون وبنادقهم حاجزًا بينهم وبين التوجه إلى محراب الأقصى.
أليس لنا أن نستفيد من تاريخنا؟ ألا يكون لنا في الهجرة النبويّة الشريفة دروس وعبَر!
لا بدّ من إنقاذ الأمل من براثن الظلام الذي يداهمنا، والتأكيد من جديد على إيماننا بإنسانيّتنا المشتركة التي تحافظ على بقائنا وتدفعنا بخطىً واثقة نحو المستقبل.