عبدالله العليان/هل هناك تقصير في فهم الإسلام؟

يطرح البعض من الكتاب والباحثين، منذ سنوات مضت، بعض الآراء في ظل الفضاء المفتوح المعزز بالعولمة بمنجزاتها المتعددة، القيم الدينية ودورها، نوعا من الجدل والنقاش، ومنها عن دور الدين نفسه، وتعاليمه وقيمه، وقدرته على الحضور والتأثير حضارياً، في عالم باتت أهم سماته التحول والقفز نحو المستقبل، مع أن دور الدين وتأثيره، تزايد تزايدا ملحوظا، مع بروز العولمة والحديث المكثف عن العلمنة! بين التيارات التي تأثرت بالليبرالية والأفكار العلمانية، بغض النظر عن سلبيات بعض إتباعه من اتجاههم إلى الغلو والتطرف والتكفير، وهي ظاهرة عابرة على السطح، وليس في عمق دين الإسلام، وتلك لها حديث آخر.
في مقابل ذلك، كما يرى د. حبيب فياض في كتابه (مقاربات في فهم الدين)، فإن محاولات عديدة برزت منهجية ومعرفية، من قبل مفكرين وباحثين مسلمين، في سبيل إثبات فاعلية الإسلام وقدرته على حل مشاكل البشرية، وذلك من خلال العمل على تقديمه كمنظومة معرفية – قيمة متكاملة وحية، وقادرة على إنتاج حضارة معاصرة، هي امتداد لحضارة حفرت في السباق التاريخي على نحو لا يمكن إنكاره أو إسقاطه من مسار التاريخ الإنساني.
وبرغم وفرة هذه المحاولات، وجديتها، وعمقها في كثير من الأحيان، بدءاً من الجهود التي بذلها المفكرون المسلمون منذ بدايات عصر النهضة، في سياق محاولاتهم تحديد أسباب تخلف المسلمين، وتقدم الغرب، وصولاً إلى عصرنا الحاضر الحافل بنتاجات فكرية تتمحور حول أسئلة النهوض والتنمية والتحرر، برغم ذلك كله، لم يزل المجهود الفكري الإسلامي، بشقّيه المعاصر والحديث، أسير طوباوية نظرية عاجزة، على الأقل، عن إقناع الآخر – المختلف بقدرة الإسلام، في مقام الفعل والعمل، على البناء والنهوض والتنمية، برغم ما يحمله، هذا المجهود، من غنى على مستوى الأفكار والمفاهيم. والتأمّل في سياق المجهود الفكري الإسلامي المعاصر ـ كما يقول فياض ـ يضعنا أمام جملة من الملاحظات والإشكاليات التنظيرية التي تتحمّل قسطاً من المسؤولية عن الإخفاق المشار إليه، خاصة أن هذا المجهود هو، في الغالب، إمّا مقاربات قد تلامس حقيقة الدين ومقاصده، من دون أن يتسنّى توافر آليّات تُحوّلها إلى مُنجزات حضارية، أو هو ـ المجهود ـ قراءات لا تُقارب هذه الحقيقة، ويتمّ إدراجها تعسّفاً في إطار الفكر الديني.
فغالباً ما يحاول المفكرون الدينيون اتّخاذ الدين ـ بما هو بنية فكرية ونظرية ـ معياراً للإنتاج الحضاري وموجّهاً له، هذا في وقت يبتعدون عن توصيف الواقع المجتمعي للمسلمين.. بمعنى أنه يُصار إلى تناول المشهد الحضاري بشقّه النظري، بمعزل عن إشكالياته التطبيقية، فتغيب في ذلك جدلية الذات”الموضوع، أو الفكر” الواقع، ليحلّ مكانها نوع من جدلية الشيء مع ذاته، أو في أحسن الأحوال، مع آخر مصطنع قد لا ينطبق على الواقع بتعقيداته وخصوصياته.
معظم المفكرين المسلمين يميّزون ـ في معرض تنظيرهم للفكر الديني ـ بين الإسلام بما هو منظومة نظرية، والمسلمين بما هم بشر قد لا تعكس سلوكياتهم ـ في كثير من الأحيان ـ حقيقة الإسلام، فيما يبقى الإشكال في أنّ المشهود أمام الآخر ـ المختلف، هو الفرد المسلم، وليس الإسلام بما هو تعاليم وقِيَم كامنة في النصوص، وبالتالي، لا قيمة للتمييز المشار إليه ما لم يكن مقروناً بالبحث عن كيفية جعل تعاليم الإسلام منعكسة من خلال سلوكيات أتباعه والمؤمنين به.
البعض يقصُر جهده الفكري على الخوض في توقّعات الدين من البشر. فيما البعض الآخر يُسرف في البحث حول توقّعات البشر من الدين، من دون الالتفات إلى أنّ ماهية الدين هي نتيجة تفاعل بين الأمرين.
البعض يُغالي في الحديث عن صلاحيات الديّن، كما يشير حبيب فياض، فيجعل منه مصدراً لكلّ معرفة، ومرجعاً يتكفل بالإجابة عن كلّ صغيرة وكبيرة إلى حدًّ قد يترتب عليه تعطيل العقل والإرادة، وبنحو يُنظر معه بعين الريبة والشكّ إلى كلّ محاولة فكرية غير مؤصَّلة انطلاقاً من القرآن والسنّة، وذلك مقابل البعض الآخر الذي يُضيّق صلاحيات الدين إلى حدّ حصره في بعض القيم الأخلاقية والأحكام الفقهية من دون الاعتراف بأيّ دور له على مستوى بناء المجتمع وإدارة الحياة. علماً أن الشرط الأساسي في إيصال الدين إلى أهدافه هو تحديد ماهيته ومدى صلاحيته في حياة الناس، لأنّ أيّ زيادة أو نقصان في العناصر المكوّنة لهذه الماهية ودورها الوظيفي من شأنهما تشويهها والحؤول دول الوصول إلى المطلوب.
ويؤكد البعض على المترتّبات الأخروية للدين مع إغفال دوره الدنيوي، علماً أن المتديّن يسعى من خلال تديّنه إلى أمرين: عمارة الدنيا، والخلاص في الآخرة.
يذهب البعض إلى تقديم قراءة واحدة الدين، وعدم مراعاة التعدّد والتنوّع بين أتباعه، وبالتالي قَوْلَبة الدين في إطار نموذج واحد، هذا في حين أن الاتّجاهات والانتماءات الدينية متباينة ومتفاوتة.. ولا يجوز المساواة بينها وإدراجها جميعاً في خانة واحدة. ويسعى بعض الباحثين إلى فهم الدين والتنظير له انطلاقاً من معطيات خارج دينية وعلى خلفيّات معرفية لا دينية، مُباينة للدين أحياناً ومتعارضة معه أحياناً أخرى، مثل: فلسفة الدين، إنتروبولوجيا الدين، علم اجتماع الدين، علم نفس الدين.. علماً أنّ من شروط فهم الدين هو الإصغاء إليه والأخذ به طبقاً لما يقوله عن نفسه، وأيّ محاولة للحكم على الدين من خارجه يمكن إدراجها في إطار العمل المعرفي، لكنْ لا يُمكن إسباغ صفة (الدينية) عليها.
من الواضح، كما قول فياض، إن النتاجات المعرفية الدينية لا تعكس مجمل المعارف الدينية الكامنة في الوحي والنصوص المقدسة، ذلك أن جوانب أخرى بقيت بعيدة عن الاستنباط والتأصيل والصياغة والتسييل. وتحديداً يمكن القول إن ثمة تنوعاً في أصناف التعاليم التي جاء بها الوحي: المعرفيات، القيم، الأحكام، والملاحظ أن معظم النتاجات المشار إليها تدور في فلك الصنف الثالث (الأحكام) من دون إعطاء الصنفين الأول والثاني ما يستحقانه من دراسة واهتمام برغم ما يتصفان به من أهمية لناحية بلورة فكر ديني فاعل ومتكامل.
يغلب على بعض نتاجات الفكر الديني المعاصر إسرافها في الحديث عن الينبغيات في سياق لغة (يجب ولا يجب) فيما يغيب عنها الحديث عن الواقعيات التوصيفية التي يعبر عنها بلغة (ما هو كائن)، حيث لابد منها باعتبار أن توصيف ما هو كائن شرط لازم لتشخيص ما يجب وما لا يجب.
ثمة تجارب حضارية معاصرة وناجحة، أسست على خلفية دينية وجديرة بالتأمل والدراسة، وتصلح لكي تكون منطلقاً للتأجيل النظري الإسلامي، ونموذجاً للتعميم المعرفي انطلاقاً من الواقع ذاته وصولاً إلى عصرنا الراهن، حيث شكلت بعض المحطات التاريخية إطاراً مرجعياً لمجمل الفكر الغربي الحديث (الثورة الصناعية أنتجت الحداثة – الثورة الفرنسية أنتجت الفكر السياسي الغربي الحديث – ثورة المعلومات أنتجت العولمة)، غير أن ما يؤسف له على مستوى المفكرين المسلمين هو عدم انطلاقهم من تجارب ناجحة (من قبيل تجربة الثورة في إيران والمقاومة في لبنان) للبناء عليها معرفياً بنحو يتم معه المزاوجة بين البنية النظرية والتجربة الفعلية، تجاوزاً لتنظير لا ينتج عنه فعل، أو فعل غير محكوم بإطار نظري.
الحديث الآن، يرتفع وبصوت عال، عن التقصير من جانب علماء الإسلام، في طرح فهم الدين الصحيح لدى بعض السباب المسلم، وهذا ما أدى إلى بروز تيارات فكرية، تفهم الدين ومناهجه فهما سطحيا ومغاليا، وهذا ما ظهر من عقود طويلة مضت، والغريب أنها مع فشلها في مسار التطرف والغلو في العقود الماضية، إلا أن أعدادها يتزايد بشكل لافت! وهذا يستتبع السؤال الجوهري: لماذا يتزايد أنصار هذا الفكر المغالي المتطرف؟ وهل هناك تقصير من العلماء؟ أم أن هناك أسبابا أخرى لهذه الظاهرة؟.. وللحديث بقية.

Related posts

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات

العرس ديموقراطي والدعوة عامة!* بشار جرار