عروبة الإخباري – كتب منيب رشيد المصري – شكًل مؤتمر القاهرة الدولي لإعادة إعمار غزة الذي عقد في الثاني عشر من شهر أيلول الحالي تظاهرة دولية مهمة ولها معانيها السياسية ليس فقط في صميم موضوع إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، بل أيضا أعطى إشارات بوجود تأييد متزايد في المجتمع الدولي الرسمي لفلسطين وللقضية الفلسطينية، ولجهة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأراضي العام 1967.
لقد كان لي فرصة المشاركة في هذا المؤتمر، وعملت على الحديث مع معظم المشاركين العرب والدوليين، لاستطلاع آرائهم حول ما هو الإطار الأمثل لحل هذا الصراع، وخلصت إلى أن جميعهم بما فيهم الأمين العام للأمم المتحدة، والوزير جون كيري، ومبعوث الرباعية توني بلير، وممثلة الاتحاد الأوروبي، يرون بأن المبادرة العربية للسلام التي أقرتها قمة بيروت عام 2002، وكذلك في مؤتمر القمة الإسلامي في طهران عام 2003، تشكل إطارا لحل سياسي يجلب الأمن والسلم للمنطقة والإقليم.
إن هذه القناعة الدولية بضرورة حل الصراع العربي الإسرائيلي سياسيا وليس عن طريق الحروب أو ما يسمى “بالسلام الاقتصادي”، لا بد لها أن تشكل دافعا لكل الإسرائيليين ويهود العالم، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أن يفكروا مليا فيما يحدث حاليا وتبعاته عليهم حال استمراره، وعليهم أن يستفيدوا من الوضع الحالي للوصول إلى حل على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، داعيا جميع الإسرائيليين ومن يؤيدهم ويدعمهم إلى قراءة ما جاء في هذه المبادرة، والتفكير، وبشكل جدي، بالفرصة التي تعطيها المبادرة العربية للسلام للإسرائيليين كي يكونوا جزءً من المنطقة والإقليم، وأن يتخلصوا من عار احتلالهم الذي يغذي استمراره حالة العنف والفوضى والقتل والدمار في المنطقة بشكل عام.
إن فحوى خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وكذلك خطاب الرئيس أبو مازن في مؤتمر إعادة الاعمار في القاهرة، (وأنصح الإسرائيليين أن يقرؤهما بتمعن)، وما جاء فيهما من أفكار ومفردات وجُمل، وتأكيد على قرارات الشرعية الدولية، والمبادرة العربية للسلام، والدعوات إلى ضرورة إنهاء الصراع، يجب أن يشكل حافزا لمجموع الإسرائيليين لكي يلزموا حكومتهم بأن تمضي في طريق السلام الحقيقي الذي يجلب الأمن والاستقرار في المنطقة، لأن بديل ذلك وكما قال الرئيس أبو مازن في خطابه: “يدفع بمنطقتنا مجدداً نحو دوامة العنف والنزاع”، مكررا في خطابة ذكر المبادرة العربية للسلام ثلاث مرات.
وإننا نشيد ونؤكد على أهمية الدور المصري الداعم للحقوق الفلسطينية، وسيعيهم الدؤوب والمشكور لتحقيق المصالحة، ووصول الشعب الفلسطيني إلى حقه في تقرير مصيره، وفي هذا السياق فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي، دعا الإسرائيليين وبشكل واضح وصريح لإنهاء الصراع حين قال: “أنادي الإسرائيليين شعبا وحكومة لقد حان الوقت لإنهاء الصراع دون إبطاء ووفاء بالحقوق وإقامة العدل حتى يعم الرخاء ونحصد جميعا الأمان، كما أثق أنكم جميعا تشاركونني النداء إلى كل أم وأب والى كل طفل وشيخ في فلسطين وفي إسرائيل لكي نجعل من هذه اللحظة نقطة انطلاق حقيقية لتحقيق السلام الذي يضمن الاستقرار والازدهار ويجعل حلم العيش المشترك حقيقة تلك هي الرؤية التي تضعها المبادرة العربية للسلام الذي نتطلع إليه والذي يحتم علينا أن يكون ميراثنا للأجيال القادمة”.
لقد شكل مؤتمر القاهرة الدولي لإعادة إعمار غزة حدثا مهما بمعناه السياسي، وكانت إسرائيل الغائب الحاضر عن هذا الحدث، فكانت هي محور المؤتمر، ولو بشكل خفي، فهي سبب انعقاده، فقد شنت ثلاثة حروب على قطاع غزة خلال ستة سنوات ولولا ذلك لما انعقد المؤتمر، ولما طلب الجميع في كلماتهم أو في أحاديثهم الجانبية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بإنهاء الصراع، وهذا يتطلب إنهاء الاحتلال، الذي يحتم إنهاؤه وجود قادة حقيقيون يعملون لصالح شعوبهم.
وهنا لا نريد العودة إلى الوراء للحديث عن محاولات الوزير كيري لتسعة أشهر متواصلة الوصول إلى اتفاق فلسطيني إسرائيل، وكيف تعاملت الحكومة الإسرائيلية مع هذا الجهد، الذي اعتبره شخصيا واحدا من أهم المحاولات في سبيل إنهاء الاحتلال، وإحلال السلام، ولكن للأسف أفشلت حكومة إسرائيل هذه الجهود، وتعاملت معها بشكل غير جدي، وأنصح الإسرائيليين بالعودة إلى التصريحات التي كان يطلقها رئيس الوزراء والعديد من أركان حكومته أثناء فترة التسعة أشهر وما تلاها، لكي يحكموا بأنفسهم إلى أين تقودهم هذه الحكومة.
وكذلك فإن سعي الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى تحويل الصراع من سياسي إلى ديني سيقود إلى مزيد من التطرف والدمار الذي سيطال إسرائيل نفسها، فما تعمل عليه حكومة إسرائيل الحالية ينطبق عليه المثل القائل “سينقلب السحر على الساحر”، ولن يخدم سوى التطرف والمتطرفين، وكما قال الرئيس أبو مازن في كلمته في القاهرة بأن “تحويل الصراع من صراع سياسي إلى صراع ديني يهدد أمن المنطقة واستقرارها، والسلام الاجتماعي فيها”. فعلى الإسرائيليين، وقبل فوات الأوان وضياع الفرصة أن يستجيبوا لنداء السلام، فالمنطقة الآن تربض على بركان، نرى دخانه يتصاعد، ونرى كيف أن حممه الأولية بدأت تحرق وتدمر، وأن دوامة القتل والدمار لم تعد تعيقها الحدود، وأن دول المنطقة لن تكون بمنأى عما يجري إذا لم تتعاون جميعها على معالجة الأسباب، والتي من أهمها الاحتلال الإسرائيلي، وعدم حصول الشعب الفلسطيني على حقه الشرعي في دولة مستقلة على حدود العام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين وفق القرار الأممي رقم 194.
إن تصريحات الوزير كيري، بعد عودته من مؤتمر القاهرة، الداعية إلى استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، واعتبار الوصول إلى حل لهذا الصراع هو إحدى الوسائل لمحاربة “داعش”، إذا ما تم قراءتها بشكل منطقي هي صحيحة، لأن حل الصراع سيوقف بازار المتاجرة بالقضية الفلسطينية، والتي أصبحت قوى الإرهاب تستخدمها كأداة للتدمير والقتل، ولا نستثني الاحتلال الذي هو أحد أبشع أوجه الإرهاب.
كذلك، هذه التصريحات يمكن البناء عليها في سبيل الدفع باتجاه أن تكون هذه المفاوضات وفق مرجعيات محددة، وضمن جدول زمني يؤدي إلى إنهاء الاحتلال، عدا ذلك ستكون هذه التصريحات دعوة لإعادة تجربة ما تم تجربته خلال الفترة الماضية، واثبت فشله. وأيضا وفي إحدى القراءات لهذه التصريحات يمكن الاستنتاج بأن الولايات المتحدة الأمريكية تقر وبشكل موارب بأن سبب الإرهاب والعنف في المنطقة هو غياب العدل، وعدم حصول الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير مصيره. فعلى الولايات المتحدة الأمريكية مراجعة مواقفها في المنطقة والتي كانت أحدى الأسباب الرئيسية التي ساعدت في ظهور حركات التطرف والعنف في المنطقة ومنها “داعش”.
هذه القراءات والاستنتاجات، تبقى في إطار التخمينات، ومن غير المجدي البناء عليها في أي تحركات فلسطينية قادمة، ما لم يتم إلحاقها بتأكيدات رسمية من الإدارة الأمريكية، بأن أي مفاوضات ثنائية برعاية أمريكية، ستقود إلى إنهاء الاحتلال ضمن جدول زمني واضح، ومرجعيات محددة، تؤدي إلى حصول الشعب الفلسطيني على حقه في دولة على حدود العام 1967، فإذا كان الوزير كيري يعني هذا الأمر في دعوته، فإنني أدعم جهوده، وانتمى على القيادة الفلسطينية، في هذه الحالة، أخذ القرار المناسب في الوقت المناسب، بخصوص توقيت تقديم المشروع الفلسطيني لإنهاء الاحتلال إلى مجلس الأمن، لأن الهدف هو إنهاء الاحتلال وليس الدخول في مناكفات مع الولايات المتحدة أو أي من أفراد المجتمع الدولي.
وحتى لا يتم تأويل تأييدي ودعوتي، ونزعهما من السياق الذي اعنيه، فإنني أقول بأن المسعى الفلسطيني للذهاب إلى مجلس الأمن، يجب أن يستمر وبكل قوة، ويجب اختيار التوقيت الأنسب لهذه الخطوة، وبخاصة إذا ما صح خبر مطالبة كيري للفلسطينيين بتأجيل طرح المشروع إلى ما بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية تجنبا لإحراج الإدارة الأمريكية الحالية، وفي هذه الحالة يمكن استخدام هذا الطلب والاستجابة له، مقابل أن تمتنع أمريكا عن التصويت ضد القرار في مجلس الأمن.
على جميع الأحوال، فإن مسعى الكل الفلسطيني هو إنهاء الاحتلال وبناء الدولة المستقلة، والحكم على صحة الخطوة من عدمها، يكون على أساس مدى إسهامها في تحقيق الهدف الجامع، فإذا كانت المفاوضات الثنائية هي الحل فنحن معها، وإذا كان الذهاب إلى مجلس الأمن هو الحل فنحن معه، وإذا كان الحل هو مزيج من هذا وذاك فلن نعارضه، ولكن السؤال يبقى: هل نحن لدينا سيناريوهات بديلة في حال فشلنا في تمرير مشروعنا في مجلس الأمن؟، علينا التفكر بالبدائل حتى نضمن النتائج. وعلى جميع الأحوال، يبقى هناك حاجة للعمل على إعادة تدويل القضية الفلسطينية، واستكمال الانضمام إلى مؤسسات وهيئات ومنظمات الأمم المتحدة، وبما يمكننا من ملاحقة إسرائيل، كدولة وأفراد، على جرائمها، وبخاصة جرائمها في مدينة القدس، وما يجري تحديدا في المسجد الأقصى، ومحاولاتها السيطرة عليه وتقسيمه زمانيا ومكانيا.
الجميع يعلم بان الحراك السياسي والدبلوماسي الفلسطيني بحاجة إلى جبهة داخلية قوية وموحدة، وقدر كاف من المصارحة والمكاشفة الداخلية، حتى لا يكون هناك مجالا للتشكيك والتخوين وفقدان الثقة، فنحن الآن بأمس الحاجة إلى ترتيب أوضاعنا الداخلية، بتعزيز خطوات إنهاء الانقسام وصولا إلى المصالحة، ودعم حكومة التوافق الوطني للقيام بالمهام الموكلة إليها، وكذلك اتخاذ إجراءات عاجلة لانعقاد المجلس التشريعي الفلسطيني بما يُدعًم النظام السياسي الفلسطيني بشكل عام، وكذلك فهناك حاجة ملحة الآن لتفعيل الإطار القيادي الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينية، لتأخذ دورها المطلوب والمأمول لقيادة هذه المرحلة الحساسة والدقيقة التي تمر بها قضيتنا الوطنية. وأيضا نحن بحاجة لتعزيز ودعم اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، وأيضا تفعيل حركات المقاومة الشعبية المثمرة، وعودة الاشتباك السلمي الفاعل ضد الاحتلال في الأرض الفلسطينية المحتلة، بالتوازي مع الجهود الدبلوماسية والسياسية المبذولة في المحافل الدولية من القيادة الفلسطينية.