كلما مرّ مزيد من الوقت على انتهاء مؤتمر القاهرة الخاص بإعادة إعمار قطاع غزة، تعمقت الشكوك لدى الذين دمرت إسرائيل منازلهم ومصادر أرزاقهم، وتصاعد القلق من جانب المخاطبين بهذا المؤتمر، حيال احتمالات ضياع فرصة إعادة الإعمار؛ ليس بسبب تعنّت الاحتلال الغيض أو انخفاض أسعار النفط مثلاً، وإنما بفعل تلبد الأجواء السياسية في سماء القطاع المدمر، بكثير من السحب التي لا تبشر بالمطر.
والحق أن هذه المخاوف كانت سابقة على مؤتمر المانحين الذي حضرته أكثر من خمسين دولة ومنظمة دولية، وأن التحسب لدى معظم المراقبين العارفين بتعقيدات الوضع القائم في القطاع المحاصر، بقي على حاله، إن لم يكن قد ارتفع درجة، رغم سخاء الوعود وتجاوزها سقف التوقعات، وقيام رئيس حكومة التوافق الفلسطيني رامي الحمدالله، بأول زيارة له إلى القطاع المحاصر، عشية انعقاد ذلك المؤتمر.
ولعل مصدر هذه الحالة التشاؤمية، التي نرجو ألا تكون في محلها، نابع من التجارب المليئة بخيبات الأمل اولاً، ومن الوعي بحقيقة أن الانقسام الداخلي لم تنطوِ صفحته بعد ثانياً، ناهيك عن استحالة الإعمار قبل إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، الأمر الذي لا يسمح سوى بالقليل من الرهان على تحقيق ما يبدو أنه اقرب إلى التمنيات منه إلى أي شيء آخر.
وتكفي نظرة خاطفة على تبادل الاتهامات بين طرفي الانقسام الفلسطيني، وتصاعدها بصورة قاسية خلال الأيام القليلة الماضية، كي يضع سكان قطاع غزة أيديهم على قلوبهم، خشية تبدد فرصة إعمار منازلهم، خصوصاً وهم يرون بأم أعينهم أن الشروط التي وضعها المانحون لبدء تدفق الأموال ومواد البناء، لم تتم تلبية أي منها، حتى لا نقول إنه يجري وضع مزيد من العراقيل إزاءها.
ذلك أن حكومة التوافق التي ظهرت أمام المانحين كما ينبغي من انسجام ووحدة، لا “تمون” على أحد في سلطة الأمر الواقع الممسكة بزمام الحكم في غزة؛ بدليل أن المعابر الحدودية التي كان مقرراً إعادة فتحها في اليوم التالي لانتهاء المؤتمر الذي جمع وعوداً مالية بنحو 5.4 مليار دولار، ظلت على حالها السابق، بل غدت مصدراً أكثر حدة للنزاع مع القاهرة ورام الله.
وأحسب أن الجذر الغائر عميقاً في تربة المخاوف الراهنة كامن في حالة عدم الثقة المديدة بين طرفي الانقسام الفلسطيني؛ وأن حالة الارتياب المتبادل هذه قد استفحلت أكثر فأكثر منذ العدوان الإسرائيلي الآثم صيف هذه السنة، لاسيما أن حسابات البيدر التي تمخضت عن المعركة الطويلة، أتت بعيدة عن حسابات الحقل، إن لم نقل إنها على عكس ما خططت له “حماس” عشية خوض هذه المواجهة البطولية.
إذ اتضح أن الخصمين السياسيين اللدودين لـ”حماس”، وهما الرئيسان عبدالفتاح السيسي ومحمود عباس، هما اللذان حصدا الجوائز السياسية الثمينة لهذه الحرب المجيدة، وأن الحركة التي ضحّت بدماء أبنائها قد خرجت من “مولد” مفاوضات وقف إطلاق النار بلا حبة حمص واحدة، حتى إن المانحين يشترطون تواريها كي تعود السلطة الوطنية إلى غزة، وهو ما زاد من الشعور الكامن لديها بفداحة الخسارة.
وعليه، فقد أخذت “حماس” تعبّر عن ضيق ذرعها بما آلت إليه حالها بعد الحرب التي قادتها، فراحت تسعى بكل ما أوتيت من براعة تكتيكية لدرء مضاعفات خسارتها الاستراتيجية، وذلك من خلال المبادرة العلنية، التي لا سابق لها في تاريخ المقاومة، إلى تشكيل جيش إضافي، وهي الحركة التي لم يعد في وسعها تغطية نفقات أعضائها، ومن ثم رفع وتيرة الخلاف مع السلطة الفلسطينية، إلى حد تصوير أموال المانحين على أنها ثمن تهويد المسجد الأقصى.
إزاء ذلك كله، فإن الخشية من احتمال تبدد فرصة إعمار غزة، تبدو خشية لها ما يبررها، بعد ظهور بوادر متزايدة على ممانعة “حماس” لشرط انسحابها من حكم غزة، كمدخل إجباري أمام تدفق الأموال؛ وتفعيل آلية المراقبة الدولية على دخول مواد البناء. وهو أمر يدعو من الآن إلى إبداء التشاؤم إزاء ما يلوح في الأفق القريب من مظاهر، تعيد إلى الأذهان أيلولة مؤتمر المانحين السابق في شرم الشيخ، الذي ظلت وعوده السخية مجرد حبر على ورق.