لم تمر المنطقة العربية بحالة من الفوضى والاضطراب والخلط والتراجع السياسي والاقتصادي والعلمي والفكري والعقائدي والثقافي كما هي الحالة الآن. فالحروب قائمة، والعمليات الإرهابية و الإنتحارية على أشدها، والعشرات من الضحايا الأبرياء يقتلون في كل صباح، والمعاهد والمعابد والمستشفيات والمصانع والمزارع يتم تدميرها كل يوم بأيدي أبناء البلد ذاته. وإسرائيل، بعد أن قتلت وجرحت الآلاف في غزة، ودمرت و أحرقت آلاف المنازل والمدارس، لا زالت تمعن في قتل الفلسطينيين وحرمانهم من الماء والغذاء والمأوى بدم بارد، وكأن غزة و أهلها معتقلون في معسكرات النازي. ولا زالت تحاصر الفلسطينيين في كل مكان ،وتلتهم أراضيهم وتنتهك مقدسات المسلمين والمسيحيين على السواء، وتعمل من خلال المشاريع غير المعلنة على هدم الأقصى تلقائيا، نتيجة للخلخلة المستمرة التي تسببها الحفريات الإسرائيلية في كل مكان. والإمعان في محو الوجود الثقافي والتاريخي والحضاري العربي في القدس وفلسطين يتصاعد بشكل ممنهج و خطة طويلة الأمد ، في زحمة الإنقسام الفلسطيني الذي لم يلتئم عمليا بعد، و انشغال العرب بانهياراتهم الداخلية، والعالم بحمى الإرهاب و الايبولا و أوكرانيا.
أما الولايات المتحدة والدول الأوروبية فهي تضرب بطائراتها تنظيم داعش ،وقد وصلت الغارات إلى ما يزيد عن (5) آلاف غارة، ومع هذا فعين العرب مهددة بالسقوط، بل وبغداد كذلك. واحتفلت داعش ليس فقط بقتل الأسرى و بتهجير مسيحيي الموصل، وإنما “بإعادة الرق قبل قيام الساعة”، باعتباره من أحكام الله. واعترفت داعش بأخذ النساء والأطفال من ايزيديي سنجار سبايا، وتوزيعهم على جنودها والاحتفاظ بالخمس منهم للدولة الإسلامية . ومع كل هذا ،لا زال الكتاب العقائديون في طول البلاد العربية و عرضها، يحللون ويفكرون ويتأملون ويستشيرون ويستفتون ويقلبون ويمحصون ويتساءلون: هل هذا فهم صحيح أو خاطئ للإسلام؟ هل داعش على حق؟ أم أنها تغالي قليلا أو كثيرا في فهم الإسلام كما يقول الشيخ القرضاوي؟ و يتساءل البعض منهم: هل قتلت داعش الأسرى من الصحفيين وعمال الإغاثة والمواطنين الأبرياء فعلا ؟ وذبحتهم بالسكاكين والسيوف والبلطات ؟أم أن ذلك مبالغات هنا وهناك؟ أم هي حرب و”فوتوشوب” إعلامية من الغرب و إسرائيل لتشويه سمعة المسلمين العطرة؟ وهل سيطر أنصار الله الحوثيون على اليمن بكاملها؟ وهل يعملون لحساب إيران أم أنهم متحالفون مع أنصار الشريعة في ليبيا؟ و داعش والنصرة في سوريا؟ وحزب الله في لبنان، والإخوان المسلمون في مصر؟ والموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية؟ وفلول نظام مبارك، وضباط السنة العراقيين، وعزت الدوري؟ وغير ذلك مما لا حصر له من خلط و تركيب و تداخل و ضبابية و اختلاط للأوراق؟ ويكاد بعض الشباب بل والكتاب يدافعون عن داعش ويبررون لها كل ما تفعل تحت ادعاء أن” الكل فاسد ،و داعش ستهدم الفساد”.
والسؤال: ما هو الإشكال الحقيقي؟ ولماذا تتهاوى الدول العربية بهذه الطريقة؟ ولماذا يصل العقل العربي إلى الحالة التي لا يستطيع أن يميز بحسم ووضوح بين الجريمة والقانون، وبين الدولة والفوضى، وبين الخرافة والعلم، وبين العقل والهلوسة، وبين الوطنية والارتزاقية؟ وبين الإنسانية والوحشية المتخلفة؟
السبب واضح: أن التعليم والثقافة و الإعلام و القراءات الخاطئة للدين و التفرد والإستبداد كل ذلك شوه و قزم في العقل العربي مفهوم الدولة والوطن، فراح العرب ينفقون جهودهم ويستنفذون أزمانهم في بناء “حكم وسلطة”، حتى لو كان سلطة حزب، وليس “وطن و دولة”. وفي الحكم والسلطة تصبح الأمور مسطحة و هزيلة و سهلة: “كل ما يزيد السلطان سلطة واستمرارا صحيح، وكل ما يضعف سلطة السلطان خطأ”. أما بناء الدولة، بمواطنيها وبمؤسساتها وتعدديتها ومصالحها، بفكرها وثقافتها وعلومها، ومواطنتها وشرعيتها و ديمقراطيتها، فليس ذلك محل اهتمام العقل والحكم العربي.وهذا ما يفهمه العالم الغربي جيدا عن العرب، وتفهمه إسرائيل وتستغله إلى أقصى د رجة . حتى حماس التي يفترض أنها تمثل شعبا وليس حكما، وتدافع عن وطن وليس حزبا، لا زالت غير ملتزمة بشروط الوفاق الوطني، وحكومة الظل فيها تدير القطاع . وهكذا تبهت و تضيع فرص التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية. وبدلا من أن تتكاثف الجهود الفلسطينية للنشاط في الساحة الدولية السياسية والقانونية، لإدانة إسرائيل وإجبارها على التوقف عن التدمير الحضاري الذي تمارسه في فلسطين، وبدلا من تشجيع المزيد من دول العالم، وخاصة الأوروبية والأمريكية، على الاعتراف بدولة فلسطين كما هو الحال في السويد وبريطانيا، فلا زالت المداورة و المناورة حول إنهاء الإنقسام دون تغيير.
إن وحشية إسرائيل و عدوانيتها و عزلتها تتزايد يوما بعد يوم.و لكن الإدانة الفاصلة لجرائم الصهيونية القبيحة التي تمثلها الممارسات الإسرائيلية، تتطلب جهودا مكثفة من الجانب الفلسطيني و العربي، وبنيانا مقنعا للآخرين بأن الفلسطينيين مهيئون لأن يكونوا أصحاب دولة في وطنهم فلسطين. و بدلا من ذلك يستمر النزاع على السلطة، ويستمر أصدقاء و محبو حماس ،و من الحب ما قتل، بمعاداة مصر والسعودية والإمارات والأردن و غيرها لاعتبارات حزبية ليس وطنية أبدا. كل هذا يستغله نتنياهو ليشتري الوقت، وليخادع العالم حتى يصل إلى نقطة يتوقعها خلال عشر سنوات، أن لا مجال لدولة فلسطينية، فقد أصبحت الأرض إسرائيلية وعلى العرب إن يبحثوا عن مكان آخر قد تسفر عنه الحروب الطائفية والدينية والقومية العربية. وفي هذا الصدد يكرر موشى يعلون وزير الدفاع الإسرائيلي خلاصة التفكير الاستراتيجي الإسرائيلي المستقر منذ سنين فيقول صراحة “إن إسرائيل لا تسعى إلى إيجاد حل مع الفلسطينيين. فهذا أمر مستحيل لأسباب كثيرة. وما يجري الآن هو مجرد إدارة للصراع بين الطرفين” وما تنشره إسرائيل بين سكانها “أن ما يسمى بالدولة الفلسطينية هو مشروع عربي – استعماري لتقسيم الأراضي الإسرائيلية التاريخية”.
هل يفهم الفلسطينيون و العرب هذا الكلام؟ وهل يفهمون طبيعة الابتزاز الإسرائيلي و إضاعة الوقت الذي أشار إليه شامير قبل 25 سنة؟ هل يتنازل الفرقاء في كل مكان عن الحكم لأجل الوطن و يواصلون الجهود فريقا وطنيا تحت مظلة سياسية موحدة تستطيع أن تقنع الآخرين بحقوقهم؟ أم لا زالوا يفكرون كما يفكر الكتاب العقائديون و رجال الدين فيقولون” ما نراه ليس الجوهر وإنما هو تطرف في الفهم” . ليست العبرة فيما يفهم المثقف أو المفكر أو رجل الدين أو السياسي العربي، وإنما العبرة فيما يفهمه الناس من الدين، وما يفهمه الإسرائيلي من السلام، وما يفهمه المواطن العادي من العلم ،وما يفهمه الشاب من الفساد عند التفكير في المستقبل.