فجأة تبرّع النظام السوري بالكشف عن وجود ثلاث منشآت لتطوير سلاح كيماوي لم يصرّح عنها سابقاً لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وتبين أن لديه مخزوناً من غاز الرايسين «العالي السُميّة»، كما يوصف. ومع تزايد التقارير عن استخدام مادة الكلور السامة أيضاً في البراميل المتفجرة، يتبيّن أن النظام لم يخف معلومات عن ترسانته ولم يخرج «نظيفاً من عملية إزالتها فحسب، بل إنه واصل استخدام هذا السلاح ضد الشعب السوري وتذكّر الآن أنه يستطيع استخدامه أيضاً لابتزاز المجتمع الدولي. لماذا؟ لأنه يريد مكاناً له في التحالف الدولي الجديد ضد الإرهاب، بصفته المسؤول عن/ والمؤتمن على سيادة الدولة السورية. لكن، حتى هذه «السيادة» باتت وهماً، أو مجرد شعار آخر يرفعه النظام في سياق استغلال الحرب على «داعش» لإنقاذ نفسه.
بالتزامن وللغاية ذاتها، وبعدما رفض المرشد علي خامنئي «عرضاً» أميركياً للتعاون في محاربة «داعش»، تبرّع الإيرانيون أيضاً بـ «تسريبة» إعلامية مفادها أنهم مستعدون لوضع هذا التعاون في غمار المفاوضات النووية ومساوماتها، فإذا وجدوا مرونة غربية (أميركية) بادلوها بخدمات في الحرب. كان نظاما طهران ودمشق ساهما، مع نظام نوري المالكي في بغداد، في جعل «داعش» فخّاً يقع فيه الغرب لقبول «شيعنة» الواقع الإقليمي أو «تشيّعه»، مع ما يتطلبه ذلك من إخلال بالتوازنات وعبث بالحقائق في إقليم يغلب عليه الطابع «السنّي» وتتزاحم فيه دول غربية لا تضع مصالحها في ميزان ديني أو مذهبي. ولا يزال «داعش» صالحاً للاستخدام أداةً للشويش والتخويف والتخريب حتى على الحرب التي تهدف إلى إبادته.
حتى الآن لا يزال الأميركيون متمسّكين بفصل التفاوض النووي عن أي تفاوض آخر، فهذا ما تعهّدت به إدارة باراك أوباما للكونغرس ولإسرائيل. قد تضطرهم حاجتهم إلى إيران في الحرب على الإرهاب إلى تقديم تنازلات لم يحن وقتها بعد. لذا، يعتبرون أن هناك تحالفاً دولياً، وأن هناك أدواراً لكل الدول «بما فيها إيران» في الحرب على «داعش» (جون كيري). هذه صيغة لا ترضي إيران التي كانت تتوقع التنسيق معها أولاً لأن الحرب ستدور في معقلين أساسيين لنفوذها. ولأنها لم تدرك بعد أن ما تسميه «نفوذاً» بات في نظر معظم دول «التحالف» جزءاً لا يتجزّأ من مشكلة الإرهاب، فإنها تطلب ثمناً لتعاونها في محاربته يدفع لها من شروط ضبط برنامجها النووي. لا ريب في أن إيران تدرك صعوبة الحصول هذا الثمن، وبالتالي فهي تبحث عن مساومة في ملف آخر، كما فعلت في مفاوضات سابقة، لتطالب بأن يكون النظام السوري في صلب «التحالف الدولي» تمهيداً لإعادة تأهيله والاعتراف به وتبرئته من جرائمه ورفع العقوبات الدولية عنه. ليس مهماً عند طهران أن يكون «نظامـ» ها السوري مؤهلاً لإعادة التأهيل – وهي تعلم أنه لم يعد كذلك – إلا أن مشاركته في «التحالف» خطوة حاسمة ونهائية لتكريس «النصر» الإيراني في سورية. أوهام أم حسابات خاطئة؟ لدى نظامَي دمشق وطهران ورقة التخريب على الحرب، وفي إدارة أوباما من لا يرى في ذلك ابتزازاً، بل يعتقد أن ثمة «واقعية» في التعاون معهما.
عندما كان الأميركيون والروس يناقشون حلولاً للأزمة السورية، خلال عام 2013، كانت الحجة القوية عند موسكو أن إسقاط النظام بالطريقة التي تمّت في العراق عام 2003، يؤدي إلى تدمير الدولة والمؤسسات، خصوصاً الجيش والأمن، لذلك حاجج الروس واقتنع الأميركيون بأن الحل السياسي «بمشاركة النظام وإشرافه» يضمن بقاء الدولة والمؤسسة العسكرية – الأمنية. كان يمكن هذه الفكرة أن تكون وجيهة ومسؤولة لو لم تكن تنمّ عن جهل مصطنع وتكاذب مريب، فلا واشنطن ولا موسكو تجهلان طبيعة هذا النظام، أما التكاذب فلأن «الحل السياسي» كان مناسباً لكلٍ من الدولتين الكبريين لأسبابها. لكن الأدهى أنهما لم تكونا تجهلان أي حال أصبحت عليه تلك «الدولة» وذلك «الجيش»، ومع ذلك اعتمدت واشنطن وموسكو تعريفاً لـ «الجيش» استند فقط إلى كونه بقي «متماسكاً» تحت قيادته، متجاهلتين تركيبته المذهبية واحتجاز عشرات الآلاف في ثكنهم لعدم الثقة بهم مذهبياً، ومتكتّمتين على النزيف الذي تعرّض له بفعل الانشقاقات واضطرار الإيرانيين لرفده بميليشيات من لبنان والعراق ومصادر شتّى.
كذلك اعتمدت الدولتان الكبريان مفهوماً لـ «الدولة» يختزلها في هيكلية النظام والسلطة نفسيهما ويُسقِط منها الشعب الذي أصبح أكثر من نصفه نازحاً أو مهجّراً أو مهاجراً، لكنه يُسقِط خصوصاً أن النظام مسؤول أول ومباشر عن كل التداعيات الكارثية للصراع: ليس أقل من مليون إنسان بين قتيل ومفقود ومعوّق، دمار مادي كبير، دمار معنوي أكبر، وخسارات لا تُحصى ولا تعوّض في الاقتصاد والصحة والتعليم والبيئة والتراث التاريخي الحضاري، فضلاً عن أزمة إنسانية هي «الأسوأ على مرّ التاريخ» وفق مفوضية الأمم للاجئين. ولتكون الفكرة أكثر وضوحاً، نستعرض بعض الأرقام في التقرير الجديد للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا): إجمالي خسائر الناتج المحلي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة 70.67 بليون دولار، مجموع الخسائر التي تكبّدها الاقتصاد السوري (2011 – 2013) 139.77 بليون دولار، استهلاك 67 في المئة من احتياطي المصرف المركزي، خط الفقر يتراوح بين 59.5 و89.4 في المئة، كلفة إعادة الإعمار قُدّرت بـ80 بليوناً في العام الماضي إلا أن «الإسكوا» أعلنت هذه السنة تقديراً شاملاً ومخيفاً يبلغ 750 بليوناً لسورية والعراق وغزّة… لعل أفضل ما في الجهد البحثي لـ «الإسكوا» أنه يرسم معالم خطة للتعامل مع هذا الوضع الصعب «إذاً» وتحديداً «إذا حصل اتفاق سياسي» بمشاركة جميع الأطراف على خطة إصلاح شامل. وفي الانتظار ستبقى التوقعات متجهة إلى هبوط عام، من الناتج المحلي إلى احتياطي المصرف المركزي (نزولاً إلى 3.5 بليون دولار) كما في غيرهما.
يقول تقرير «الإسكوا» إن «الانهيارات الكبرى» في الاقتصاد السوري حصلت، والخسائر الكبرى وقعت، فعام 2013 كان «الأسوأ» على كل الصعد، أي أن سورية راسخة حالياً، دولة ومؤسسات ونظاماً، في فشل داخل فشل، ولا تنتج سوى نمطها الخاص من «الصوملة». كان 2013 العام الذي سلّم فيه النظام إلى إيران إدارة معركته عسكرياً وسياسياً، وصولاً إلى «انتخابات رئاسية»، وسعياً إلى إعادة تسويقه داخلياً وخارجياً في وقت كانت طهران تبحث عن تسويق نفسها غربياً من خلال سماح المرشد بانتخاب رئيس «إصلاحي». كانت إيران خطّطت لهذه «الانتصارات» انطلاقاً من أن موازين القوى العسكرية هي التي تغيّر معطيات الأزمة وديناميكياتها، فترجّح عندئذ «حلاً سياسياً» لمصلحة النظام، أي لمصلحتها. لكن هذا يصلح فقط لحسم الحروب بين الدول والتفاوض على إنهائها، ونادراً ما يصلح لإنهاء حروب أهلية. والدليل أن المعارضة شهدت تدهوراً مريعاً لأحوالها ولم تستسلم، والأزمة لم تقترب من نهايتها. لذا، لم يبقَ للنظامين السوري والإيراني سوى الرهان على «داعش»، العنوان المرعب الذي لا بدّ من أن يستدعي تغييراً لمصلحتهما من الجانب الأميركي – الغربي.
تترجّح طهران (ودمشق) بين عقلية «المؤامرة» وعقلية «المافيا». فالأولى تريد كل شيء أو لا شيء وترفض التسويات تجنّباً للتنازلات، فتنتهي كما رأينا إلى إحباط أي حل سياسي. والثانية تعدّ للجريمة ولإظهار براءتها في آن، ولأنها تعرف أنها متهمة أصلاً فهي تقبل بأي تسوية لا تهدّد وجودها. إذا لم تتح لنظام بشار الأسد المشاركة في الحرب على «داعش»، فهذا يعني أن التحالف الدولي يعامله على أنه غير موجود، فلا بأس إذاً في التنازل – لا للشعب بل للخارج – عن ثلاثٍ فقط من منشآت كيماوية لا يزال يخفيها.
* كاتب وصحافي لبناني