تتوالى الانقسامات الدينية و الطائفية والمذهبية والقومية والجهوية في الكثير من البلاد العربية، بشكل بات يهدد سلامة الدول والمجتمعات، ويحدث فيها انقسامات سياسية واجتماعية و حروب دموية قد يتطلب التآم جراحها سنين طويلة . وما نراه في سوريا و العراق وليبيا واليمن والسودان نماذج محزنة للغاية. في أحد البلدان يحتد الصراع بين الشيعة والسنة، وفي بلد ثان بين السنة والعلويين، وفي بلد ثالث بين المسيحيين والمسلمين، وفي بلد رابع بين الشماليين والجنوبيين، وفي بلد خامس بين العرب و الكرد وفي بلد سادس بين التكفيريين والمعتدلين و في بلد سابع بين العرب والامازيغ، وهكذا . والسؤال لماذا ظهرت هذه الانقسامات اليوم؟ رغم التعايش السلمي الذي ساد هذه المنطقة لسنوات وعقود وقرون.
هناك أسباب أربعة ينبغي مواجهتها الأول: السياسي والذي يقف خلفه سياسيون و قوى سياسية محلية و إقليمية و دولية لها مطالب و مصالح و مطامح و مطامع، ووجدوا في التقسيم والتفرقة والرجوع إلى الدين والمذهب،و العرق والطائفة و القومية والجهوية وسيلة مجدية و أسطورة جاذبة للجماهير يمكن من خلالها تمرير ما يرمون إليه .و هذا يتطلب التوافق على حلول وطنية سياسية لا يكون فيها غالب أو مغلوب.
والثاني: تاريخي تقليدي، حيث جرى العرف على طبع البلاد بطابع واحد فيه شيء واضح من الحدة: العروبة فقط، أو الإسلام فقط، أو الكرد فقط، أو الشمال فقط أو الشيعة فقط… الأمر الذي أدى إلى التهميش المعنوي أو العملي للمكونات الأخرى للمجتمع. و هذا يتطلب قبول التعددية و التنوع باعتبارها الوضع الطبيعي لأي مجتمع.
والثالث: السلطة والحكم. حيث دأبت أنظمة الحكم في العديد من الأقطار العربية على إقصاء وتهميش المكونات الأخرى، و الإكتفاء بجزء أو أكثر من المجتمع لتكون له السلطة والقوة والمناصب والمواقع دون مراعاة المكونات الأخرى. و هذا ينبغي أن يتغير إلى الحكم الديمقراطي القائم على المواطنة والمشاركة والمساواة وسيادة القانون
و الرابع تربوي ثقافي ديني.حيث لا تتناول مناهج التربية و التعليم و منتجات الثقافة الجماهيرية و نشاطات الوعظ و الإرشاد الديني مكونات المجتمع بشكل ايجابي، و خاصة ما له علاقة بالأديان والمذاهب والطوائف .و التجاهل أو الإغفال لا يحقق نتائج ايجابية أبدا، لأنه يتيح للفئات المتطرفة والقوى المعادية والفئات المتصارعة أن تملأ الفراغات بالصور المشوهة التي تخدم أغراضها . كما أن التجاهل لا يولد بالضرورة المحبة الدائمة والتماسك القوي المطلوب تواجده في جسم المجتمع بأسره. و ما هو سائد في معظم الأقطار العربية إغفال لمكونات المجتمع ليكتشف الفتى أو الفتاة عندما يشبان عن الطوق بأن هناك فئة لا يعرفان عنها إلا اقل القليل. و بالتالي من السهل أن ينقاد الشباب في حركة عدائية ضد “الآخرين” تحت شتى الذرائع ، أو أن يتقبل وصفها بصفات قديمة وردت في كتابات قبل مئات السنين في عصر ما قبل الدولة الحديثة و عصر ما قبل المواطنة، أو أن يسمع من الخطباء والوعاظ تكفير هذه الفئة، أو ذلك المذهب أو الكتاب، وغير ذلك الكثير. و هنا تقفز الحركات المتطرفة لاستغلال هذا الوضع و توظيف الجهل “بالآخر” للإنقضاض على بعض من مكونات المجتمع ، مستثمرين شعور الشباب بالعداء تجاه الفئات التي لا يعرفون عنها إلا ماهو قديم أو مشوه. وكان وزير الأوقاف على حق حين أشار إلى العبء الملقى على وزارة الأوقاف لتغيير هذه المشاهد. ففي الشرق العربي هناك أكثر من عشرين فئة أو طائفة أو مكون من مكونات المجتمع. فهناك المسلم والمسيحي والدرزي والصابئي والعلوي والأيزيدي و البهائي والعربي والكردي و الشيشاني والتركماني، و غير ذلك الكثير. هذه المكونات التي تستحق الإحترام جميعها هي جزء أصيل من الأوطان و المجتمعات، وهي بحكم القانون والمواطنة جزء لا يتجزأ من الوطن و بحكم القانون الدولي و حقوق الإنسان تقف على قدم المساواة في الحقوق والواجبات
. و لكن ما هي الصورة في ذهن الشباب ؟ و ماذا يقرؤون في الكتب ؟ و ماذا يشاهدون على الإنترنت و شبكات التواصل الإجتماعي؟ عكس ذلك تماما في معظم الأقطار العربية. فالصور مشوهة، و المشاهد مؤدلجة، و الأحكام مستورثة مسبقة، والمواقف عدائية مسيسة.و هذا كله في إطار الإحباط والبطالة،و التدخلات الخارجية ينتج أفضل بيئة حاضنة للتطرف.
إنه لا سبيل إلى فك الإرتباط بين التطرف والتكفير والخروج على القانون من جهة، و بين الإنقسامات الفئوية والدينية والجهوية والقومية من جهة أخرى،إلا من خلال تصحيح الصور الذهنية المشوهة المستقاة من الماضي ،و خاصة لدى الشباب، في وقت مبكر. و من هنا فإن الأقطار العربية جميعها بحاجة إلى تدريس سلسلة من المواد الدراسية في المدارس والمعاهد والجامعات بعنوان “مكونات المجتمع الوطني” و تواكبها منتجات الثقافة والإعلام والوعظ والخطابة . لتتناول هذه المواد المكونات الإجتماعية ببساطة و إيجابية من حيث الأعداد والمدن والقرى التي يشغلها هؤلاء، و شخصياتهم الوطنية البارزة و إبداعاتهم في العلوم والفنون والثقافة والفكر و السياسة و فنونهم الشعبية و حرفهم اليدوية و ديانتهم و كتبهم..الخ. كل ذلك بعيدا عن الإسقاطات القديمة و تأسيسا على الحاضر و المواطنة، و سلامة الوطن.و هنا تبدأ الصور والإنطباعات بالتغير الحقيقي. و تصبح التعددية والتنوع هي الوضع الطبيعي في عقل و ضمير المواطنين.و يصبح الإقرار بحرية الآخرين و الرغبة في التعايش والتعاون معهم في إطار القانون والدولة و حقوق الإنسان والمواطنة هي الدروع التي تحصن الشباب و تسمح ببناء مستقبل وطني و عربي قائم على الأمل و إبداعات الحاضر ، وليس أنقاض الماضي.