يجري الآن الحديث بقوة عن مواجهة داعش والأخطار التي تحملها للمنطقة، ابتداء من التشويه الكلي للإسلام، ووصم المسلمين بالهمجية، و مرورا بالقتل البشع والترويع الوحشي لمكونات المجتمع حسب الدين أو الطائفة، وانتهاء بتدمير بنية الاقتصاد وكيان الدول التي تتمكن منها . وإذا كان هناك من برنامج لمواجهة هذا الخطر الداهم، فإن المحور الأول و هو العمل العسكري والإجراءات الأمنية يأتي في المقدمة، بكل ما يلزم ذلك من أجهزة ومعدات، وخبرة وعقيدة قتالية، تؤمن بالوطن والدولة، وحق الناس في الحياة والحرية وفق القانون، والدفاع عن ذلك بكل الإمكانات. والثاني مواجهة الفقر والبطالة باعتبارها التربة المولدة لليأس والإحباط وبالتالي الحاضنة للإرهاب والتطرف. والثالث: تحديث القراءة والمحتويات للبرامج التربوية و الوعظية و المناهج الدينية والثقافة المجتمعية و تعزيز مفهوم المواطنة والدولة.
وبالنسبة للفقر والبطالة فهي مسألة ليست بالجديدة، والحديث عنها يمتد لسنوات دون أية إجراءات جذرية في الموضوع. وقد زادت تأزما بفعل ثلاثة عوامل رئيسية هي: بطء النمو الاقتصادي (2% إلى 3%) سنويا، و ثانيها الهجرات الضخمة من الدول المجاورة والتي وضعت في الأسواق أكثر من (750) ألف يد عاملة تبحث عن العمل بأي ثمن. وثالثها ارتفاع أسعار السلع والخدمات، مما جعل الدخول غير متلائمة مع الأسعار، ولا توفر المتطلبات المعيشية اللازمة. ومهما كان التبرير والتفسير ، فإن العلم والإبداع والقرار السياسي الحاسم وتجارب الدول الأخرى، تؤكد أن لا سبيل لمواجهة الفقر والبطالة إلا من خلال خلق فرص عمل جديدة وزيادة الدخول، وهذا لا يتحقق إلا من خلال المشاريع الإنتاجية الجديدة على طريق تصنيع الاقتصاد الوطني. . كما أن البطالة المرتفعة والفقر المتسع في المحافظات لا يمكن مواجهتها إلا من خلال تنوع المشاريع في الصناعة والزراعة. و خلاف ذلك فإن أعداد العاطلين عن العمل ستستمر في الزيادة، ليتصاعد الإحباط و يجد التطرف طريقه بسهولة في هذه الظروف. إن اقتصاد المال واقتصاد العقار، والقروض والمساعدات والمعونات، والدعم المباشر وغير المباشر، وبيع الموجودات الوطنية لمستثمرين أجانب، وكل ما شابه ذلك ،من شأنه أن يضيع الوقت ولا يولد فرص عمل جديدة، وبالتالي يدفع الشباب إلى مزيد من اليأس والتمرد والخروج على الدولة. و هو ما تنتظره الحركات المتطرفة.
و نحن إذا كنا جادين في مواجهة التحدي،فعلينا التحرك الفوري،و لن نبدأ من الصفر. فلدينا قطاع صناعي انطلقت نشاطاته منذ أكثر من (50) سنة، وأحرز نجاحات كثيرة، و يشغل ما يقرب من (15% ) من القوى العاملة، ويساهم بأكثر من (20%) من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن منذ بداية التسعينات لم يلق البيئة المناسبة، فراح يواجه الصعوبات المتراكمة، و يناضل للحفاظ على بقائه و تنافسيته.ولا زال هذا القطاع يعاني من مشكلات مزمنة أهمها: غياب البوصلة الإقتصادية للدولة و غياب الشراكة الحقيقية مع القطاعات الأخرى،و ارتفاع كلفة الاستثمار، وصعوبة التمويل ،والأكلاف المرتفعة للطاقة والنقل، و الرسوم والضرائب المفروضة على مستلزمات الإنتاج، و عدم الإكتراث بالمشاريع الكبيرة المتعثرة، والمنافسة غير المتكافئة مع المنتجات المستوردة، خاصة بعد أن فتحت الدولة باب الاستيراد على مصراعيه. أما الشراكة مع القطاع العام والتي يتجدد الحديث عنها في كل موسم و مناسبة، فإن الفعل فيها معدوم تقريبا، ولا زالت الحكومات تنظر إليها بإستخفاف كما يقول الصناعيون.
لقد قدمت الفعاليات الاقتصادية الكثير من المقترحات للحكومة مباشرة، أو خلال لقاءاتها بالملك، ومع هذا فخلاصة الموقف أن قانونا واحدا لم يصدر ليساعد القطاع الصناعي على الانطلاق أو يؤهله لأن يكون نقطة الارتكاز في تصنيع الاقتصاد.
إن الصناعة هي المحفز الأول لأي اقتصاد، وهي التي من شأنها أن تعطي قطاع الخدمات وقطاع الزراعة قيما مضافة عالية. و السؤال ماذا تنتظر الحكومة؟ ليس هناك من حلول سحرية، ولا حلول كلية كاملة، وإنما “هناك حلول تراكمية”. يشير رئيس الوزراء محقا إلى الطاقة والمياه والزراعة كعقبات كبرى أمام الإقتصاد الوطني. هل ننتظر حتى عام 2023 عام المحطة النووية ؟ و نتلكأ بالمصادر الأخرى من طاقة شمسية و صخر زيتي و رياح لأننا نريد حلا شاملا؟ و هو لن يأتي؟. و يتحدث وزير المياه بأننا استنفذنا جميع المصادر المتاحة، و لم يبق إلا التحلية من مشروع ناقل البحرين، و إلا فإن كلفة الطاقة للتحلية ستكون 5 دولارات للمتر المكعب. هل ننتظر مشروعا فيه إشكالات سياسية و تمويلية و بيئية معقدة ليحل مشكاة المياه؟ و هو لن يحلها، و نهمل” التحلية بالطاقة الشمسية” غير المكلفة؟، ، والسدود الصغيرة والحفائر، وتدوير المياه و الإستمطار و توليد المياه من الهواء لغايات الزراعة؟
متى نقتنع أن تصنيع الإقتصاد سوف يؤدي إلى تصنيع الزراعة؟ فتصبح أعلى إنتاجية و أكثر جاذبية للقوى العاملة الأردنية؟ متى نقتنع أن الخروج من الأزمات هو بالتراكم والحلول المتكاملة، و باستعمال كل تكنولوجيا متاحة مهما كانت مساهمتها جزئية و بسيطة ؟ فتغيير المعادلة الإقتصادية والإجتماعية، و بناء المستقبل لا يتأتى إلا من خلال الإرادة والمثابرة والتراكم القائم على العلم والتكنولوجيا المتاحة والواقعية.