كثيرة هي الحروب التي دخلها العرب في مواجهة إسرائيل. بعض هذه الحروب خاضتها جيوش نظامية وانهزمت فيها كلها، فيما عدا حرب 1973 التي أبلى فيها الجيشان المصري والسوري بلاء حسناً ولقّنا إسرائيل درساً قاسياً، وبعضها الآخر خاضتها قوات غير نظامية رجحت فيها كفة المقاومة المسلحة التي استطاعت أن تحول دون تمكين آلة الحرب الإسرائيلية من تحقيق معظم أهدافها المعلنة.
غير أن التاريخ يعلمنا أن العبرة ليست بما تستطيع الجيوش أو المقاومة الشعبية المسلحة تحقيقه في ميدان القتال وإنما بما تستطيع السياسة تحقيقه، سواء على مائدة المفاوضات أو في المحافل الديبلوماسية، أثناء أو بعد توقف القتال. فالقوات المتحاربة، جيوشاً نظامية كانت أم قوات غير نظامية، قد تحقق في ميدان القتال ما تعجز القيادة السياسية عن استثماره سياسياً، فتخسر الحرب في النهاية. والمثال الواضح على ذلك ما جرى في حرب 1956 حين تمكنت جيوش إسرائيل وبريطانيا وفرنسا، والتي تواطأت معاً لشن الحرب على مصر عقب إقدام عبد الناصر على تأميم شركة قناة السويس، من احتلال سيناء والسيطرة على منطقة قناة السويس. غير أن ما حققته الجيوش المغيرة من «إنجازات» عسكرية في ميدان القتال لم يكن كافياً، لا لإسقاط النظام الحاكم في مصر ولا لإجبار عبد الناصر على العدول عن قرار التأميم، ومن ثم هزمت الدول الثلاث المعتدية سياسياً في النهاية، واضطرت قواتها إلى الانسحاب من المواقع التي احتلتها.
تلك كانت في حقيقة الأمر جولة الصراع الوحيدة التي كسبها العرب سياسياً، رغم خسارتهم لها عسكرياً. أما جولات الصراع الأخرى مع إسرائيل، سواء تلك التي منيت فيها الجيوش العربية بالهزيمة أو تحققت فيها إنجازات عسكرية مهمة في ميدان القتال، فقد انتهت في اكثر الأحيان بهزيمة سياسية، بما في ذلك حرب 1973 الناجحة عسكرياً. الاستثناء الوحيد على هذا النمط المتكرر من الهزائم في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي حققته المقاومة اللبنانية بقيادة «حزب الله» عندما تمكنت عام 2000 ليس فقط من تحرير جنوب لبنان، بإجبار قوات الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من دون قيد أو شرط، وإنما أيضاً من دحر القوات اللبنانية التي كانت تتعامل مع الاحتلال وإجبارها على الفرار إلى إسرائيل! وهكذا رجحت كفة إسرائيل في معظم جولات الصراع وتمكنت من الاحتفاظ حتى الآن بمعظم الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، خصوصاً الجولان والضفة الغربية، كما تمكنت من فرض حصار محكم على قطاع غزة، وجعلت من سيناء منطقة عازلة شبه منزوعة السلاح.
أشعر، كمواطن مصري عربي، بالزهو لما حققته المقاومة الفلسطينية المسلحة من إنجازات في المعركة التي فرضت أخيراً على الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة. فقد أثبتت هذه الجولة من الصراع: 1- أن المقاتل الفلسطيني أصبح أكثر استعداداً وتصميماً على خوض المعارك ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي المجهز بأحدث أنواع الأسلحة، وأن كتائب المقاومة الفلسطينية المسلحة بالإرادة والإيمان قادرة على قهر وإذلال هذا الجيش في ساحات القتال. 2- أن الجيش الذي تفخر به «الديموقراطية الوحيدة في بحر الاستبداد العربي» لا يتورع عن ارتكاب جرائم حرب تصل إلى حد الإبادة الجماعية، بدليل سقوط أكثر من ألفي قتيل وثلاثة عشر ألف جريح غالبيتهم الساحقة من المدنيين، خصوصاً من الأطفال والنساء والمسنين ورجال الإسعاف والإطفاء. 3- أن الشعب الفلسطيني في غزة لم يعد لديه المزيد مما يخسره وأن الشعب قرر الصمود حتى النهاية في معركة البقاء، حتى لو أبيد عن بكرة أبيه، كما قرر الالتفاف حول المقاومة المسلحة، باعتبارها الملاذ الأخير لحمايته، مهما بلغت التضحيات. 4- أن بقية الشعب الفلسطيني المبعثر بين الضفة الغربية وفي الأرض المحتلة عام 1948 وفي الشتات، بات يدرك أنه كتب عليه أن يقاتل الآن وحيداً، نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي لم يعد أمامه سوى الصمود والانتصار.
كما أشعر، كمواطن مصري عربي أيضاً، أن قبول نتانياهو وقف إطلاق النار وفق صيغة، لم تتضمن إشارة من قريب أو بعيد إلى نزع سلاح المقاومة وتنص في الوقت نفسه على التزام إسرائيل فتح المعابر ورفع الحصار عن قطاع غزة، لا يعني سوى شيء واحد وهو أن المقاومة انتصرت بالفعل، لمجرد أنها نجحت في منع إسرائيل من تحقيق أي من الأهداف التي من أجلها شنت الحرب والتي كان في مقدمها تحطيم «حماس» ونزع سلاح المقاومة أياً كان اسم الفصيل الذي يحمله.
غير أن هذا الشعور بالزهو والفخار لا يستطيع أن يخفي شعوراً موازياً بالقلق مما قد تأتي به الأيام أو الأسابيع أو الشهور المقبلة من مفاجآت قد تسمح لإسرائيل بأن تحقق في ميدان السياسة ما عجزت عن تحقيقه في ميدان القتال. فدروس التاريخ، كما سبقت الإشارة، تقول إن إسرائيل كانت هي الأقدر على إدارة الصراع السياسي في معظم الجولات، بما في ذلك تلك التي خسرتها عسكرياً، ليس لأن لديها أوراقاً أقوى مما تملكه الأطراف العربية، ولكن لأن قدرة الأطراف العربية على استخدام ما بحوزتها من أوراق ظلت دائماً محدودة وكان بمقدور إسرائيل أن تعمل على خلط أو تبديد أو بعثرة كل ما بيد العرب من أوراق. لذا لا يخالجني شك في أن إسرائيل ستبذل كل ما في وسعها هذه المرة أيضا للضغط على جميع الأطراف المؤثرة في مسار الصراع، بهدف إسقاط كل الأوراق التي مكنت الفلسطينيين من الصمود في الميدان، والتحرك على مختلف الصعدة، وذلك على النحو التالي:
1-على المستوى الدولي: ستسعى إسرائيل جاهدة لإقناع الولايات المتحدة بالتحرك لاستصدار قرار من مجلس الأمن يربط بين ما يمكن أن يتحقق من تقدم على صعيد إعمار قطاع غزة ورفع الحصار المفروض عليه، خصوصاً ما يتعلق بتفاصيل بناء وافتتاح الميناء والمطار، وبين شكل من أشكال نزع سلاح المقاومة أو، على الأقل، فرض نوع من الإشراف الدولي على استخدامه.
2- على المستوى الإقليمي: ستسعى إسرائيل جاهدة إلى تعميق التناقض القائم بين العديد من الدول العربية، خصوصاً بين مصر وحركة «حماس»، لإضعاف هذه الأخيرة سياسياً، والعمل على تمكين السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، تمهيداً لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انفراد «حماس» بالهيمنة على القطاع.
3- على المستوى المحلي: ستسعى إسرائيل جاهدة لتخريب حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، والعمل في الوقت نفسه على ثني السلطة الفلسطينية وتخويفها من عواقب الانضمام إلى الاتفاقيات الدولية، خصوصاً اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، والتي من شأنها منح مشروع الدولة الفلسطينية الوليد زخماً متصاعداً على الصعيد الدولي، كما ستسعى لاتخاذ الاحتياطات اللازمة لإجهاض أي محاولة محتملة لإشعال فتيل انتفاضة جديدة في الضفة.
والسؤال: هل تعي الأطراف المعنية حقاً بتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه المشروعة هذه الاستراتجية الإسرائيلية، وهل تملك هذه الأطراف ما يكفي من الإرادة السياسية للعمل على إجهاضها، وهل بوسعها وضع استراتيجية بديلة لمواجهتها؟
أعتقد أن الفلسطينيين يملكون الآن من الأوراق ما يكفي لتمكينهم من إجهاض الاستراتيجية التي تسعى إلى تمكين إسرائيل من الحصول عبر مائدة المفاوضات على ما عجزت عن تحقيقه في ميدان القتال، شريطة: 1- أن تدرك السلطة الفلسطينية أن التفاوض من دون قدرة على مقاومة الاحتلال لا بد أن ينتهي بتصفية القضية الفلسطينية، ومن ثم فإن واجبها الأساسي في هذه المرحلة يفرض عليها ضرورة الحفاظ على سلامة المقاومة وحماية سلاحها، كما يفرض عليها ضرورة عدم الركون لأي وعود إسرائيلية، مهما كانت براقة، والشروع على الفور في اتخاذ كل الإجراءات التي تساعد على ممارسة أقصى ما يمكن من وسائل الضغط السياسي والنفسي على إسرائيل، ورفع كلفة احتلالها للأراضي الفلسطينية إلى أقصى مدى ممكن. 2- أن تدرك «حماس» أن مقاومة الاحتلال الاستيطاني لا يمكن أن تتم بالسلاح وحده وإنما بالسياسة أيضاً، وأن الحركة الوطنية الفلسطينية أوسع من أي فصيل، ومن ثم تقع عليها مسؤولية حماية وحدة هذه الحركة وقطع الطريق أمام كل المزايدات. 3- أن يجهز الشعب الفلسطيني نفسه أينما وجد، خصوصاً في الضفة وداخل إسرائيل نفسها، للانتفاض من أجل إنهاء الاحتلال.
تحرك السلطة الفلسطينية في اتجاه اتخاذ ما تستطيع من إجراءات تسمح بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وتحرك المجتمع المدني الفلسطيني في اتجاه العمل الجاد لإشعال فتيل انتفاضة ثالثة، وحرص جميع الأطراف على حماية سلاح المقاومة، كلها أوراق يمكن إذا أحسن استخدامها تحويل وقف إطلاق النار في غزة إلى نقطة انطلاق نحو تحرير الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967.
* كاتب مصري