ها هو «داعش» يحفر قبره بنفسه، مثلما دفع كثيرين إلى قبورهم ظلماً وعدواناً وحماقة، لم يخيّب ظن أحد تابع صعوده، وتنبأ بحتمية هلاكه، فهو يحمل بذور فنائه فيه.
قبل نحو عام نشرت في هذا المكان مقالة عنونتها بـ«داعش وأمير بيشاور». كان ذلك في زمن صعوده في سورية، وتنمره على من سبقه للثورة، فكان كالضيف الذي لم يدعه أحد. رويت في المقالة قصة جرت في القارة الهندية في القرن الـ18، لمقاتل شاب أصبح أميراً لبيشاور بعدما نجحت حركة إسلامية تصحيحية بتحرير المدينة من حكم «مهراجا» سيخي خلال شهرين فقط، وبعدما فرض الأمير الجديد أحكاماً متشددة على سكان المنطقة القبليين، ضاقوا به وثاروا عليه، فأعاد السيخ وجيشهم للحكم من جديد، لم يقضوا عليه وحده، بل على كامل الحركة وزعيمها الروحي أحمد شاه الشهيد.
قصة كلاسيكية تتكرر، تصديقاً للحديث النبوي الشريف «ما شادّ الدين أحد إلا غلبه»، ولكن الضرر لن يتوقف عنده، وإنما سيمتد إلى كل الثورة السورية التي حلمت بدولة حرة ديموقراطية تعددية، وعلى تطلعات سنّة العراق إلى عدل ومساواة وحياة أفضل.
ستخسر «السلفية الجهادية التكفيرية» مرة أخرى كل شيء بعدما استعدت كل العالم، وقهرت كل من وقع تحت يدها بما في ذلك حاضنتها السنيّة، سنشهد فرحة الموصليين عندما يزاح كربها عنهم، مثلما احتفل القندهاريون بهزيمة «طالبان» في 2001، على رغم أنها كانت حاضنتهم. ببساطة لا أحد يحب الغلو والتشدد.
ولكن لا نستعجل في التفاؤل. في النهاية سيسقط «داعش» في صيغته الحالية «الدولة الإسلامية» بعد معركة تطول أو تقصر، ولكن سيبقى حركة إرهابية قاتلة تنشط سراً على الأرض نفسها التي كانت تحكمها، مثلما سبقتها «الإمارة الإسلامية في أفغانستان» إلى المصير نفسه، ولكن ستزيدها الهزيمة توحشاً وكراهية، كما لن تختفي فكرتها المدمرة، فما تم تأسيسه والدعوة إليه حتى اختمر خلال عقود وانتشر حتى تجاوز حدود الحواضر الإسلامية وبلغ مساجد أوروبا والعالم كله، لا يمكن أن يختفي في عام واحد.
سينتصر العالم عسكرياً على «داعش» وتوابعه، ولكن يحتاج إلى عمل منظم وحثيث لمنع ظهور جيل آخر، فمقاتلو اليوم هم الجيل الثالث للسلفية الجهادية التكفيرية، فجيلها الأول كان في مصر التسعينات، ثم الجزائر حيث اشتد عودها. الجيل الثاني هو الذي شهد مواجهة ما بعد 11-9 ممثلاً بـ «القاعدة» في أفغانستان، ثم العراق فالسعودية واليمن، أما زماننا، حيث الخلافة و«الدولة الإسلامية» فهذا الجيل الثالث مع تداخل بين الأجيال.
ولكن يجب الاعتراف بأنه وعلى رغم سطوة «الحرب على الإرهاب» والحملات الإعلامية والفكرية عليه، فإن ماكينة تفريخ «السلفية الجهادية التكفيرية» لا تزال منتجة ونشطة، بل جاءت انتصارات «داعش» الأخيرة في الموصل وما بعدها، محفزة للإنتاج، وجاذبة للمترددين ومولّدة لجيل جديد.
لقد احتاج العالم إلى صدمة كي يتحرك، على الأقل لوقف مد انتصارات «داعش» التي شكلت عامل جذب للمتطرفين المترددين. لقد شهد «داعش» خلال الشهر الماضي أكبر نسبة التحاق به بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان والذي اشتهر بدقة معلوماته، فقدّر أن تعدادهم وصل في سورية وحدها إلى 50 ألف مقاتل، نصفهم من الأجانب.
جاءت الصدمة في استهداف «داعش» للأقليات، والمنظر البشع لنحر الصحافي الأميركي، ما حرك الولايات المتحدة ضدهم بعمليات قصف محدودة، ولكن كانت كافية لأن يحقق المقاتلون الأكراد انتصاراً عليهم في معركة سد الموصل الأسبوع الماضي. بالتأكيد ستؤدي هذه الانتكاسة إلى «تبريد» زخم التعاطف مع التنظيم، وهذا بحد ذاته مكسب في معركة استئصاله الطويلة.
لماذا فشل العالم في وقف خط إنتاج الداعشيين الجدد؟ العاهل السعودي الملك عبدالله، غاضب من الجميع، من العلماء الذين لم يقوموا بدورهم، ومن العالم الذي لم يتحمس لفكرته في تأسيس مركز دولي لمحاربة الإرهاب برعاية الأمم المتحدة، فسلّم سفيره لدى واشنطن وممثل المملكة في الأمم المتحدة 100 مليون دولار تبرعاً للمركز لعل العالم يتحرك ويشارك المملكة اهتمامها. الرئيس الأميركي أوباما قال أخيراً إن «داعش» سرطان يجب استئصاله «بعدما صدم بصور نحر مواطنه». الرئيس الفرنسي هولاند صرح بأن العالم يمر بأخطر مرحلة، ودعا إلى مؤتمر دولي للنظر في سبل مواجهة «داعش»، ولكن كيف؟
من الواضح أن المواجهة العسكرية قد بدأت حتى الآن احتوائية لمنع «داعش» من كسب أراضٍ جديدة، خصوصاً في كردستان التي يطمئن إليها المحلل العسكري الأميركي ليس حباً في الأكراد وإنما لتماسك قيادتهم السياسية وقواتهم، بينما لم يستعد الثقة بالجيش العراقي الذي أكلته الطائفية والانقسام السياسي، فلا يريد أن يكون لجيش طائفي قوات جوية. قد يتغير هذا لو شكّل رئيس الوزراء المعيّن حيدر العبادي حكومته ونجح في ضم سنّة معتبرين إليها. ما يعني أننا أمام حرب طويلة، وقودها شعوب المنطقة بينما ينتقي الأميركي والأوروبي من بعد، من يحمي ومن يؤيد، وعمّن يتخلى ويتركه لمصيره، المهم ألا يكسب «داعش» الحرب ولا يستقر له مقام.
إذا كانت الحرب العسكرية على الأرض صعبة ومعقدة، فإن الحرب الفكرية أكثر صعوبة. لنتخيل قاعة اجتماعات فيها كل من له علاقة بالحرب على الإرهاب، سعودي، مصري، إيراني، إماراتي، قطري، أردني، تركي مع أميركي وأوروبي، بل حتى إسرائيلي، والمطلوب منهم وضع خطة لاستئصال «داعش». كيف سيتفقون ولكل منهم أولوياته، ورؤيته، وتحليله الخاص لمسببات هذه الظاهرة المزعجة، بل إن بعضهم ممن تعامل تحت الطاولة مع التنظيم. يزيد الطين بلة قدر من عدم الثقة وتبادل الاتهام. كيف نستطيع استئصال المرض ونحن حتى الآن لم نتفق على مسبباته. كلنا يصف المرض عندما يقول إنه دموي، لا مكان له في القرن الـ21، متمرد، إرهابي، قاتل، متوحش، خارجي، كل ما سبق توصيف للوحش، ولكن لمّا نتفق بعد على جيناته، لم نستوضح خريطته الوراثية DNA، بل لم نتفق على اسم وتعريف محدد لها، فهو يخرج علينا تارة باسم «القاعدة»، وقبلها «الجماعة الإسلامية» والجهاد في مصر، ثم «الجماعة السلفية المقاتلة» في الجزائر، واليوم «الدولة الإسلامية» و«أنصار الشريعة» و«بوكو حرام» و»حركة الشباب» وحركة «طالبان» بفرعيها. هل كل ما سبق شيء واحد أم حركات متعددة؟ تتفق في العنف والقتل والتكفير، ولكنْ لكل منها صفات وتاريخاً وأسباباً تميزها عن بعضها البعض.
أين الحقيقة ومن يملكها؟ كيف ننتصر إذاً على شيء لا نعرف ما هو؟
* كاتب وإعلامي سعودي