للحرب، كما للدواء، آثار جانبية ضارة أحيانا، يجهد الجنرالات والأطباء، كل في مجال اختصاصه، في التحذير منها، وربما التغاضي عن نتائجها الجزئية، إذا كان العلاج المتاح لا بديل له، أو كانت الحرب غير اختيارية، لا سبيل إلى درئها.
ومع أنه يوجد للعدوان الآثم على غزة نتائج مباشرة، جوهرية وعميقة، ليست محل استظهار في هذه المطالعة، فإنه يوجد له في المقابل آثار جانبية، تكاد لأهميتها الاستثنائية أن توازي، إن لم تتفوق على الحصيلة غير النهائية لهذه الحرب التي لم تكتمل فصولها بعد.
بداية، يجدر التذكير بحقيقة أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل عنيفة، وفق مفهوم كارل كلاوفيتز، الذي يعد الأب الأول لفلسفة الاستراتيجية الحربية، وواضع نظريتها التأسيسية في القرن التاسع عشر. وعليه، فإنه يمكن اعتبار السياسة امتداداً للحرب بوسائل دبلوماسية ناعمة.
والحق أن كل معركة عسكرية هي عبارة عن رواية سياسية، يختلف فيها الطرفان المتحاربان، ليس فقط على من تقع عليه مسؤولية اندلاع القتال، وإنما أيضاً على الصورة الختامية؛ وعلى من هو المنتصر، خصوصاً إذا كان المشهد النهائي ملتبساً عند وقف إطلاق النار، يسمح لكلا الطرفين ادعاء تحقيق أهدافه.
لذلك، سندع مثل هذه الادعاءات إلى وقت لاحق؛ أي إلى ما بعد التوصل إلى اتفاق تهدئة أو هدنة طويلة، لنسلط الضوء على النتائج الجانبية لهذه الحرب غير المتكافئة، من منطلق أن هذه النتائج التي لم يكن مرغوباً فيها من جانب المقاومة، قد فرضت نفسها بنفسها، وبدت كحقائق سياسية كاملة، قبل أن تضع الحرب أوزارها.
كما تفترض هذه المقاربة أن الحرب في صفحتها الرئيسة، قد انتهت بعد مرور شهر على اندلاعها، وأن كل ما سيجري من الآن فصاعداً، هو مجرد مناوشات محدودة تقع على الهامش، حتى إن انهار وقف إطلاق النار اليوم، ونشبت جولة موضعية أو أكثر. فالنتائج الميدانية استقرت على نحو ما تجلت عليه بعد أول هدنة إنسانية.
وبالعودة إلى فحص النتائج الجانبية، فإنه يمكن رؤية آثارها غير المتوقعة سلفاً، في صورة رابحين اثنين لم يخوضا غمار هذه الحرب، وإن كانا طرفين غير مباشرين فيها. أولهما، السلطة الفلسطينية وقيادتها الشرعية المعترف بها عربياً ودولياً. وثانيهما مصر عبدالفتاح السيسي، صاحبة تلك الورقة التي ظلت على الطاولة وحيدة.
إذ على غير ما كانت تشتهي حركة حماس، التي سعت منذ البداية إلى تهميش السلطة وإخراجها من المشهد كله، شكلت رئاسة السلطة وفد المفاوضات الفلسطيني الموحد، وتمسكت بالورقة المصرية، ونجحت في جعلها القاعدة التفاوضية الحصرية، ثم لاءمت خطابها مع جملة المطالب المشروعة التي أشهرتها المقاومة قبل أن تيمم وجهها شطر القاهرة.
من ناحيتها، تمكنت القاهرة من إعادة إملاء نفسها، واسترداد قسط كبير من دورها الفلسطيني التقليدي، وجلب الطرف الذي كان لا يود منحها أي أفضلية إلى المائدة مكرهاً، ومن ثم إفشال كل رعاية إقليمية أخرى للمفاوضات غير المباشرة، وهو ما شكل أول نجاح من نوعه لدبلوماسية مصر الجديدة، وفوق ذلك إخراج معبر رفح من المفاوضات كلياً، وربما استضافة مؤتمر المانحين لإعادة إعمار غزة.
ولعل نظرة عاجلة على ورقة الاتفاق المقترح، الذي وضعته القاهرة لوقف إطلاق نار طويل المدى، تبين لنا أنها لم تشتمل على أي مكسب سياسي لحركة حماس، يوفر لها أرضية للاحتفال بالنصر، إن لم نقل إن كل بنود هذه الورقة قد صبت القمح كله في طاحونة السلطة الفلسطينية، التي ستكون هي العنوان الأوحد لتنفيذ الاتفاق المقترح، بما في ذلك فتح المعابر، ناهيك عن الإشراف على عملية إعادة الإعمار وتحويل الأموال.
ولعل هذه القراءة الأولية هي التي تفسر أسباب رفض حركة حماس، فضلاً عن تحفظات الجانب الإسرائيلي على ورقة الاتفاق المقترحة، كما توضح أيضاً لماذا ظلت هدنة الأيام الخمسة مفتوحة على كل الاحتمالات الممكنة، بما في ذلك العودة إلى جولة قتال يصعب من الآن ترجيح مدى قدرتها على تغيير الحقائق الجوهرية، أو إلغاء النتائج الجانبية التي نجمت عن هذه الحرب العدوانية.