قتلت إسرائيل في غزّة منذ بدء حربها الأخيرة عليها نحو 1500 فلسطيني غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وجرحت وشوّهت و”عوّقت” أكثر من ثمانية آلاف. وهي ستقتل المزيد إذا استمرت حربها، وهي مستمرة حتى الآن. كما أنها دمَّرت المنازل والمخيمات والأكواخ والبنى التحتية على قلَّتها، وستستمر في تدمير المزيد منها. لكن ذلك كله على بشاعته وعلى الألم والغضب اللذين يثيرهما في نفوس الفلسطينيين والعرب والمسلمين والشعوب التي تؤمن بحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن ذلك كله لن يحقق لإسرائيل أو لشعبها الجانح نحو اليمين الانتصار لا على شعب غزة ولا على الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية. كما أنه لن يصيب فلسطينيّي الشتات باليأس. والسبب الرئيسي لذلك هو أن إسرائيل لا تقاتل تنظيماً تعتبره وقسم من العالم “المتحضر” ارهابياً مثل “حماس” أو “الجهاد الإسلامي”، بل هي تقاتل شعباً فلسطينياً لا يستطيع إلا أن يتماهى مع الجهة الرسمية أو الحزبية التي تدّعي إسرائيل أنها تستهدفها بسبب الخطر الذي تشكِّله عليها سواء بواسطة الصواريخ أو بواسطة الأنفاق التي تستعملها للقيام بعمليات داخل الأراضي الإسرائيلية.
والدافع إلى ذلك هو معرفة الشعب الفلسطيني الموزّع بين الداخل الإسرائيلي (1948) والداخل العربي والشتات أنه هو المستهدف من إسرائيل ومن زمان، ذلك أن التنظيمات التي تحاربها لدرء الخطر عن نفسها ليست إلا ذريعة. فالهدف الحقيقي هو كسر إرادة شعب فلسطين وتهويد ما تبقى من أرضه ودفعه نحو الهجرة بالتدريج. والدليل الأبرز على ذلك هو تسببها الدائم بإفشال العملية السلمية مع الفلسطينيين منذ بدئها عام 1991 وحتى الآن. كما هو اغتيال منتمٍ إلى التيار اليميني المتشدد فيها رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين الذي بدا في حينه جدياً في البحث عن سلام “معقول” معهم.
والانتصار في حرب كهذه مستحيل إلا إذا قرّر مسؤولو إسرائيل إبادة شعب غزة الفلسطيني. وهذا أمر لا يمكن أن يقبله أو يتقبّله العالم رغم الانحياز الدائم لكباره وعظمائه إليها في كل اعتداءاتها على الفلسطينيين والعرب. علما أن ما يجري منذ أوائل تموز الماضي في غزة يكاد يقترب من الإبادة. وقد واجهت إسرائيل عام 2006 حال التماهي بين “حزب الله” المقاوم احتلالها أراضٍ في جنوب لبنان وبقاعه الغربي، والشعب الذي يعيش في المنطقتين. وكان ذلك أحد أبرز أسباب هزيمة “جيش الدفاع الإسرائيلي” رغم حرب شرسة استمرت 33 يوماً، وعجزِه عن تحقيق هدفه وهو القضاء على “الحزب” بل استئصاله. طبعاً تختلف جغرافيا لبنان عن غزة الأمر الذي يجعل المقاومة فيه أسهل. لكن ذلك على صحته تتغلب عليه وحدة الشعب الفلسطيني في المواجهة والمقاومة رغم اختلاف قسم مهم منه مع الممسكين بمقاليد الأمور في القطاع.
طبعاً هناك سبب آخر يحتل المرتبة الثانية، لاستحالة انتصار إسرائيل سواء عام 2006 في لبنان أو الآن في غزة. وهو عدم استعداد إسرائيل لشن حرب حقيقية براً وبحراً وجواً وبكل الأسلحة. أولاً لأنها لا تستطيع (مع شعبها) تحمّل خسارة آلاف بل عشرات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين. هذا ما لاحظه العالم كله عندما لمس تردُّد قادة إسرائيل المدنيين العسكريين أثناء حرب 2006 على لبنان. فهي بدأت جوية، وعندما فشلت أرسلوا وحدات برية ولكن بأعداد قليلة لا يمتلك أفرادها العزم والتصميم المطلوبين في الحروب من دون خطة واضحة وجدية. وواجهوا الفشل أيضاً. ثم رأوا أنفسهم ينجرّون إلى حرب برية شاملة من دون تخطيط مسبق فتجاوبوا مع المداخلات الدولية لوقف الحرب، أو ربما توقفوا عن سماع نصائح دولية وأميركية بالاستمرار فيها.
هل تستمر الحرب أم تنجح المساعي المبذولة لوقف النار؟
المساعي لا تزال تُبذل، لكنها عشوائية. فالسعودية ومصر تتحركان منفردتين وتتحرك في مواجهتهما وإن لتحقيق الأمر نفسه قطر وتركيا. والدول الأوروبية تتفهم دوافع إسرائيل لكنها لم تعد قادرة على تغطية ذبح المدنيين في غزة. وأميركا التي غطت إسرائيل على نحو تام سياسياً وعسكرياً (أعطاؤها أخيراً ذخيرة من مخزونها داخل إسرائيل) لا تبدو مستعجلة لوقف الحرب رغم الاحتجاجات الفارغة للأمم المتحدة. أما إسرائيل فإنها لا تريد الآن أقل من القرار 1701 الذي أراح حدودها مع لبنان. لكن السؤال الآخر المهم الذي يُطرح هنا هو: هل تنجرّ دول أخرى في المنطقة إلى حرب غزة؟
sarkis.naoum@annahar.com.lb