قبل أن تنتهي الحرب العدوانية الضارية على قطاع غزة خصوصاً، وعلى الشعب الفلسطيني عموماً، يمكن القول بثقة شديدة، إننا ربحنا معركة الصورة ربحاً صافياً هذه المرة، وأن كل ما جرى من تشويش إعلامي بائس على المشهد الكلي لهذه المعركة غير المتكافئة، قد فشل في تسويق الزعم القائل بأن إسرائيل تخوض حرباً دفاعية في مواجهة رشقات صاروخية أربكت الحياة داخل الخط الأخضر، لكنها لم توقع خسائر بشرية أو مادية تدعم حق الدفاع عن النفس.
إذ أدت بشاعة الصور المنقولة من عين المكان في حي الشجاعية، إلى تهافت الذرائع الإسرائيلية الرائجة في بداية هذه الحرب، وإلى انكشاف وحشية آلة القتل البربرية ضد الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء، الأمر الذي كفت معه بعض وسائل الإعلام الغربي المنحاز أوتوماتيكياً للرواية الإسرائيلية، عن محاولاتها لقلب الصورة المبثوثة، وتزوير هوية الضحايا والمقتولين، على نحو ما أقدمت عليه واحدة من أكبر شبكات التلفزة الأميركية.
لقد أصبحت معركة الصورة خلف ظهورنا، حتى قبل أن تضع هذه الحرب أوزارها. وها نحن نتقدم اليوم نحو حرب أشد صعوبة من سابقتها، ونعني بذلك معركة جلاء الوعي، وتنقيته من الشوائب العالقة به؛ ليس على الجانب الفلسطيني فقط، وإنما على الجانب الإسرائيلي أيضاً. إذ تشير السجالات المبكرة في أواسط النخب السياسية والفكرية، على كلا الجانبين، وما حققته بطولات المقاومة الباسلة في ميدان القتال المباشر على الأرض من نتائج غير مسبوقة، إلى أن ما بعد هذه المعركة لن يكون كما قبلها.
وبقدر ما انطوى عليه سير هذه المعركة من مفاجآت وسوابق، أتت صادمة للرأي العام الإسرائيلي؛ مزعزعة لمفهوم المناعة الذاتية وباعثة على أسئلة محرجة حول أداء الجيش الذي يشكل صخرة وجود إسرائيل، فقد جاءت تباشيرها في المقابل حافزة على الثقة بالنفس أكثر من ذي قبل، وعلى حس بالجدارة عزّ نظيره في السابق لدى شعب حوصر تماماً، وضاقت به الأرض بما رحبت، وظل رغم ذلك صامداً مقاوماً، يدفع عن قلبه زمهرير اليأس، يربي الأمل بتؤدة، ويذود عن حلمه في الخلاص من احتلال بلا نهاية، بما في ذلك نيل حريته واستقلاله وعودة لاجئيه.
ومهما كانت النتائج السياسية لهذه الحرب المكلفة، وحتى مع بقاء الخلل الهائل قائماً في علاقات القوة، فإن ما تم إنجازه من توازن نسبي، ومن مكاسب رمزية، ومن تفوق أخلاقي على قوة عمياء متوحشة، سوف يظل حاضراً عند إجراء المراجعات من كلا الجانبين، وإعادة التقويم، وفحص المسلمات والمفاهيم والأوهام التي تلبس الضحية والجلاد، في إطار ما يمكن تسميته بعملية كي وعي متبادل، يدرك الإسرائيليون في مخاضها حدود القوة، وعدمية إدامة الاحتلال والاستيطان إلى ما لا نهاية، فيما يكتشف فيها الفلسطينيون، في المقابل، أن روحهم غير قابلة للكسر أبداً، وأن كفهم العارية قادرة حقاً على حمل الجمرات الملتهبة، حتى وإن ظلت وحدها تقاتل.
وأحسب أن المظاهرات الاحتجاجية التي شملت الضفة الغربية والقدس وفلسطينيي 48، تضامناً مع المقاومة وإسناداً لها في غزة، ثم ما تبع ذلك من إضراب عام منسق ونادر الحدوث، شمل التجمعات الفلسطينية الثلاثة الكبرى في فلسطين الانتدابية، ناهيك عن تطوير الخطاب الرسمي؛ كل ذلك كان مظهراً قوياً من مظاهر جلاء الوعي الفلسطيني، وفصلاً بارزاً من فصول المعركة على تجديد الحس بذات وطنية جامعة، رغم تعدد الأهداف الفرعية، وحقائق الأمر الواقع، وبُعد المسافات التي لم تعق التماثل الوجداني في حرب وطنية كبرى.
وهكذا، فنحن اليوم في خضم معركة جلاء الوعي وتمحيصه من هنا وهناك؛ معركة لم يكن مقدراً لها أن تنطلق على هذا النحو المفعم بالاستهلالات المبكرة والمراجعات الحذرة، لو لم تقع هذه المعركة الحربية، وتتجلى فيها كل هذه البطولات التي بددت الهواجس والمخاوف والتحسبات لدى كامل الطيف السياسي الفلسطيني، إن لم نقل إن هذه الجولة من القتال قد عززت اليقين بأننا بصدد معركة فاصلة من معارك الاستقلال الوطني، نهضت بها غزة بكفاءة وبسالة، تماماً على نحو ما كانت تنهض به من أدوار استثنائية منذ احتضانها المبكر لجذوة الوطنية الفلسطينية.