مقالي اليوم ليس جديداً، بل كتبته في الثامن من الشهر الأول من عام 2007. لكن ما توقعته آنذاك يحدث بحذافيره. ولو أردت أن أوّصف الوضع اليوم لما غيرت كلمة واحدة. إلى المقال القديم الجديد دون زيادة أو نقصان:
وكأن ما فعله المجرمان “التاريخيان” البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو عام 1916 من تقطيع لأوصال العالم العربي وتحويله إلى دويلات ومقاطعات ومحميات وأشباه دول ومزارع وكانتونات، وكأن الجولة الأولى من عدة جولات قادمة أخطر وأعتى لتقطيع المقطــع وتجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم، مع الاعتراف بأن المسيو بيكو والمستر سايكس كانا، في اتفاقية “سايكس-بيكو” سيئة الصيت، أكثر رأفة بنا من السايكسبيكيين الجدد، فعلى الأقل لم يقسّما المنطقة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ودينية، فتعايشت الطوائف والمذاهب والأعراق والأديان في الكيانات العربية المصطنعة الناشئة دون نزاعات تذكر، باستثناء الكيان اللبناني الذي خرج على السرب منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ليخوض حرباً أهلية ذات طابع طائفي بغيض. أما ما عدا ذلك، فقد سمت مكونات المجتمعات العربية فوق تمايزاتها الطائفية والمذهبية والعرقية لردح طويل من الزمن، حتى فكر جورج بوش بشن الجولة الثانية من شرذمة المنطقة طائفياً هذه المرة. ففي الوقت الذي تتشدق فيه أمريكا بضرورة صهر العالم في قرية كونية واحدة في إطار العولمة، فهي ما لبثت تقسم أوطاننا على أسس طائفية ومذهبية جاهلية.
كما هو واضح الآن لكل من يمتلك ذرة وعي سياسي فإن السيناريو الجديد يتمثل في إحياء العداوات التاريخية بين شعوب المنطقة وإلباسها ثوباً دينياً وطائفياً ومذهبياً صارخاً، مع العلم أن جل الخلافات والاختلافات بين الطوائف والمذاهب كانت ومازالت سياسية بامتياز مهما حاول البعض إلباسها رداء عقدياً.
لقد بدأت عملية تطويف المنطقة من العراق، حيث كان الأمريكيون يتعاملون مع أفراد المعارضة العراقية السابقة على أساس طائفي بحت تحضيراً لتنفيذ المخطط بعد الغزو. وقد اشتكى المفكر العراقي غسان العطية من تعامل الأمريكيين معهم على أساس شيعي وسني أثناء مؤتمرات المعارضة التي كانت ترعاها واشنطن في أمريكا وأوروبا قبل احتلال العراق. وقد عمل المحتل منذ اللحظة الأولى بعد الغزو على دق الأسافين بين الشيعة والسنة، مع العلم أن العراقيين عاشوا مئات السنين دون أن يعرفوا من هو السني ومن هو الشيعي بينهم. فلماذا أصبحوا يقتلون بعضهم البعض على الهوية بعد الاحتلال؟ وقد بانت النوايا الأمريكية التطويفية على حقيقتها من خلال ما سُمي وقتها بـ”مجلس الحكم” سيء الصيت الذي قام على توزيع طائفي بغيض.
وليتهم اكتفوا بفدرلة العراق على خطورتها، بل راحوا يذكون نار الفتنة الطائفية بطريقة حقيرة للغاية، حيث سيكون العراق، فيما لو نجحت الفدرلة، أول نظام فيدرالي غريب في التاريخ الحديث يقوم على أسس طائفية. بعبارة أخرى فإنه قد تلبنن. وليس من المستبعد أن تكون دول عربية عديدة في طريقها إلى اللبننة، بحيث يصبح المثال اللبناني هو المعمول به عربياً، خاصة أن الكثير من البلدان العربية يزخر بالطوائف والعقائد التي يمكن وضعها في مواجهة بعضها البعض بسهولة كبرى.
ومن المؤسف جداً أن بعض الدول العربية تساعد أمريكا بشكل مفضوح في هندسة مشاريع التفتيت الطائفية الجديدة ووضعها موضع التنفيذ. فهذا يتحدث عن “هلال شيعي” بهدف تحريك النوازع الطائفية الكامنة لدى شعوب المنطقة، وذاك يتهم بعض الطوائف بأنها موالية لجهات غير عربية كي يستثير الطوائف الأخرى ضدها، وذاك يعلن عن دعمه لطائفة معينة في العراق لإذكاء نار الطائفية المستعرة، مع العلم أن معظم الدول العربية التي تلعب بنار الطائفية مهددة بنفس النزاعات الدينية والمذهبية فيما لو أرادت أمريكا وإسرائيل تحريكها. فالكثير من البلدان العربية يمكن أن تتحول إلى عراق أو لبنان آخر، كبر أو صغر.
يبدو أنه مطلوب من العالم العربي ألا يتوحد أبداً، وأن يكون في حالة تشرذم وتصارع دائمين، مرة باسم الصراع بين الإسلاميين والقوميين واليساريين، والآن باسم العداء التاريخي بين العرب والفرس، أو السنة والشيعة. ولا أدري إلى متى تبقى هذه المنطقة عرضة للتركيب والتفكيك عند الحاجة خدمة للمخططات والأطماع الاستعمارية في العالم العربي. ولا أدري إلى متى تبقى بعض الأنظمة العربية أدوات في عملية تجزئة المنطقة وتقطيع أوصالها.
لكن ذلك لا يعني أن الطرف الآخر بريء من تهمة التحريض الطائفي والتوسع باسمه، كما هو حاصل في العراق، حيث تعمل إيران على تجريد بلاد الرافدين من هويتها العربية وتطويفها لصالح توجهاتها المذهبية والقومية العنصرية، مما يضعها في حالة صراع مذهبي وقومي مكشوف مع العرب والطوائف الأخرى، خاصة أنها أيضاً، كنظرائها العرب، لا تضع من جانبها حداً لناشري البغضاء الطائفية والمحرضين على الطوائف الأخرى، لا بل أطلقت العنان لـ”فرق الموت” و”فيالق الغدر” في ربوع العراق الجريح كي تنشر القتل والدمار والإرهاب على الهوية. بعبارة أخرى قبل أن نلوم الأمريكيين الذين يعملون جاهدين لتفتيت المنطقة على أسس طائفية وعقدية ومذهبية، لابد أن نلوم بعض حكومات الشرق الأوسط التي، إما أنها متورطة في اللعبة الأمريكية برضاها، أو أنها لا تدرك أبعاد المخطط التطويفي الخطير الذي قد تصبح مؤامرة “سايكس بيكو” بالمقارنة معه، مجرد “لعب عيال” لما ينطوي عليه من خطورة بالغة قد تحرق المنطقة وتعيدها إلى عصر ملوك الطوائف، بحيث قد نتحسر على أيام القــطرية التي أمضينا ردحاً طويلاً في محاربتها وذمها.
وأرجو ألا يعتقد أتباع أي من الطوائف والمذاهب الإسلامية أن أمريكا تساند الواحدة ضد الأخرى من أجل سواد عيونها، إنما تفعل ذلك لضرب المسلمين بعضهم ببعض من أجل أهدافها الاستعمارية الخاصة. فواشنطن لم تأمر حكومة المالكي العراقية بإعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى المبارك إرضاء للشيعة وكيداً للسنة، بقدر ما تريد دق إسفين بين الشيعة والسنة وجعلهم يذبحون بعضهم على الهوية لزمن طويل، بينما تكون هي في تلك الأثناء تحقق أطماعها في المنطقة.
متى تعي شعوبنا وحكامنا أن ضباع العالم يخططون بقدر كبير من الاستمتاع، لإثارة النزعات الطائفية في دائرة الحضارة العربية والإسلامية ليسهل عليهم فرض السيادة والهيمنة إلى أمد طويل بهدف تقسيم هذه المنطقة الحيوية من العالم إلى دويلات طائفية ضعيفة، وليكون الكيان “الإسرائيلي” أقواها نفوذاً وجبروتاً، إن لم نقل ملك الطوائف المتوج؟