في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات يبتهل الشعب العماني بالدعاء والتضرع إلى الله العلي القدير أن يديم بالصحة والعافية على مولانا صاحب الجلالة المعظم السلطان قابوس بن سعيد حفظه الله وأمد في عمره المبارك ، الذي يغادر اليوم إلى جمهورية ألمانيا الإتحادية من أجل قضاء إجازته السنوية وإجراء بعض الفحوصات الطبية كما جاء في بيان صدر بالأمس عن ديوان البلاط السلطاني .هذا الإرتباط العاطفي والعقلي بين أبناء الشعب والقائد لا ينبع أهميته فقط بإعتبار جلالته سلطان للبلاد ، خاصة وأن غالبية الشعب العماني لم يعرفوا سلطانا غيره ، وإنما ينبع من رؤية أخرى ربما لا نجد لها مثيلا في عالمنا المعاصر في العلاقة بين الشعوب وقياداتها السياسية ، فصاحب الجلالة عند العمانيين ليس فقط سلطان على البلاد منذ عام 1970 وإنما ينظر الشعب إليه باعتباره القائد ، والوالد ، والإنسان . وحتى نعرف أهمية جلالته بالنسبة للشعب العماني كقائد إستثنائي يعتبر الأبرز في التاريخ العماني القديم والمعاصر ، فلا بأس من الرجوع قليلا إلى الوراء وتحديدا قبل الثالث والعشرين من يوليو المجيد عام 1970 .
إن القوة والضعف والتمدن والتأخر هي لحظات متغيرة في حياة الأمم والشعوب والحضارات ، وكل حضارة لا تصل إلى مستوى من القوة والتمدن والتوسع الجغرافي حتى يدب الضعف في بنيتها وتبدأ في مرحلة التراجع والتقهقر إلى الوراء ، والانكماش على الذات ، وقد حدث ذلك للإمبراطوريات الكبرى في العالم التي سادت دولا كثيرة وأمما مختلفة ، ولكنها تراجعت بعد ذلك وأصبحت أمما مثل أية أمة أخرى على وجه الأرض مثل الإمبراطوريات الفارسية والبيزنطية والإسلامية بدولها المختلفة (الأموية والعباسية والفاطمية والصفوية والعثمانية وغيرها) ، وفي العصر الحديث اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية . ولم تشذ عمان عن هذه القاعدة الكونية ولكنها اتخذت شكلا أكثر قسوة بفضل عوامل متعددة سياسية ، واجتماعية ، وجغرافية ، وغيرها ، مما باتت معها عمان قبل النهضة المباركة عام 1970 دولة تعيش خارج التاريخ والجغرافيا معا .
إستلم صاحب الجلالة المعظم الحكم في عمان في ظروف محلية وعربية ودولية في غاية التعقيد ، فقد كانت الدعوة الشيوعية تنشر دعاياتها في دول المنطقة عبر تنظيمات يسارية نشطة لها إرتباطات خارجية معروفة تتلقى منها الدعم المادي والمعنوي والعسكري بأشكاله المختلفة ، إضافة إلى دولة مقسمة وتفتقد إلى أي برنامج سياسي أو إقتصادي يخرج البلاد من عزلتها الدولية وأزمتها الإقتصادية ، وحركة تمرد عسكرية نشطة في جنوب البلاد وتحتل مناطق شاسعة منه ، ولكن صاحب الجلالة المعظم حفظه الله لم يستلم الحكم من أجل السلطة فقط ، بل كان يحمل أهدافا إصلاحية وثقافة تنويرية ، ولذلك عمل منذ اللحظة الأولى على تنمية الإنسان العماني أولا وتحريره من ثقافة الخوف الذي كان يقبع فيه بالسابق ، ودعوته إلى الإنطلاق للمشاركة في نهضة بلده عمان وإخراج البلد من القرون الوسطى إلى التنمية والبناء .
لم تقم النهضة العمانية بقيادة صاحب الجلالة المعظم حفظه الله على نظريات فلسفية مجردة عن سياقها الواقعي السياسي / الاجتماعي يتم التنظير لها في مدونات نظرية أو كراسات فلسفية تشرح هذه النظرية ، وإنما قامت على أفكار صاحب الجلالة ونظرياته في السياسة وفلسفة الحكم وإدارة الأزمات التي استقاها من خلال قراءاته العميقة في الفكر والفلسفة وعلم الاجتماع والعلاقات الدولية وغيرها ، إضافة إلى دراساته الفقهية والدينية وهي مدونة في خطب جلالته التي كان يلقيها في الأعياد الوطنية والمناسبات المختلفة ، ويرى الباحث فيها نظريات جلالته في إدارة الحكم وفلسفة بناء الدولة والعلاقات الدولية وفلسفة العفو والتسامح وغيرها ، ففي أزمة ظفار – مثلا – وهي أخطر أزمة واجهت الدولة الجديدة لأسباب متعددة منها إنها كانت تتمثل في التعامل مع منظمة تتبنى فلسفة أممية تقوم على العمل المسلح ولها اتصالات مع دول أجنبية مختلفة بغرض تغيير النظام القائم والعمل على إحلال فلسفة تتعارض مع القيم العمانية سواء الدينية منها أو الاجتماعية محله. ولم تكن تعامل فكر النهضة معها بالسلاح فقط ، ولم تنظر الحكومة إلى تلك الجماعة المسلحة إنها حركة عميلة تسعى إلى بث فكرة الإلحاد في المجتمع والإطاحة بالنظام القائم وبالتالي التعامل العسكري المباشر معها ، وإنما قامت بادئ الأمر بمد اليد إلى قياداتها وأفرادها للعودة إلى أحضان الوطن وترك السلاح على قاعدة عفا الله عما سلف التي انتهجتها الحكومة مع بقايا المعارضة التي كانت في الخارج أو الداخل ، والأمر الثاني إنها نظرت إلى هؤلاء نظرة الأب المشفق على أبنائه الذين ضلوا عن جادة الحق والصواب بغرض إرجاعهم إلى البيت العماني الذي يسع جميع الأبناء على اختلاف توجهاتهم وقناعاتهم الفكرية. وبالفعل عاد جمع كبير من هؤلاء وشاركوا – ولا يزالون – بفعالية في إدارة الدولة الجديدة ، يقول المفكر اليساري البحريني عبدالنبي العكري في كتابه ” التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي ” ص 121 : ” كان قابوس مرنا مع خصومه ، فباستثناء التحقيق الأمني الذي كان يجري مع أعضاء الجبهة العائدين والذي يتم في فيلات مريحة ، فإن العائد يعطى امتيازات إعادة تأسيس حياته وتأمين عمل له ويغلق ملفه الأمني ” ، وقد تعامل فكر النهضة العماني مع الموضوع من أكثر من زاوية ، منها أن القضية بدأت في منتصف الستينات وكانت ردا على افتقاد التنمية في عمان وهي أصل المشكلة. إذن فالحل يكمن في القضاء على أصل المشكلة حتى لا يكون هناك أي مبرر لبقائها واستمرارها ، فكانت الأوامر السامية بالبدء في عملية التنمية في جنوب الوطن وشماله وفي شرقه وغربه وفي ذلك يقول المفكر العراقي الدكتور مفيد الزيدي في كتابه ” التيارات الفكرية في الخليج العربي 1938 – 1971 ” ص 315 : ” استهل قابوس حكمه بسياسة الإصلاح والمصالحة مع القوى المعارضة والحوار مع قادة الثورة في ظفار ، وانتهاج سياسة تحديث في مختلف أقاليم عمان ولا سيما ظفار ” . وأود الإشارة هنا أيضا الى أن سياسة العفو والتسامح لم تتوقف فقط عند هذه المحطة المهمة في التاريخ العماني فقط ، وإنما شملت أيضا تنظيمات فكرية مختلفة أخطأت في حق الوطن والسلطان ولكن شاء العفو الأبوي إلا أن يشملها أيضا بهذه السياسة الأبوية كما حدث في تنظيمات 1994 و 2005 وقضايا الإعابة عام 2012 . وهكذا يتعامل الأب الحنون مع شعبه فأنه يعتبرهم كأولاد له ، ولا يفرق في النظرة إليهم من شخص إلى آخر.
وأما في السياسة الخارجية فإن النظرية القابوسية في العلاقات الدولية أصبحت مثالا يحتذى بها في السياسات الناجحة بين الدول ، وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مع ضرورة فض المنازعات بين الدول بالطرق السلمية ، ورفض الاحتكام إلى العنف ، ولذلك رفضت السلطنة قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر بعد توقيعها اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1978 لأنها شأن داخلي مصري قامت بناء على مصلحة تلك الدولة العربية ، واحتفظت السلطنة بحيادها الإيجابي في الحرب العراقية الإيرانية رغم الأمواج العاتية التي كانت تهدد المنطقة في تلك الفترة ، ولكنها لم تستطع إخراج السلطنة عن موقفها الثابت وساهمت بشكل كبير في إيقاف النزاع ولا تزال السلطنة تحتفظ بهذا النهج كمنهج ثابت في سياستها الخارجية ، ولا ننسى أيضا الدور العماني في دفع عجلة المفاوضات بين الولايات المتحدة والغرب وإيران حول برنامج الأخير النووي .
وقد احتلت فلسفة التنمية مكانة سامية في الفكر النهضوي العماني ولم لا والنهضة لم تقم إلا لأجل المواطن العماني وتوفير كل السبل من اجل تحقيق العيش الكريم له ولأبنائه ، ولذلك انطلقت النهضة في عمان في عملية التنمية في شتى المجالات بعد الثالث والعشرين من يوليو مباشرة عندما تحدث قائد النهضة إلى الشعب قائلا: أيها الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل .. وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب، كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي. كانت عمان بالأمس في ظلام ولكن بعون الله سيشرق فجر جديد على عمان وعلى أهلها ”
وانطلاقا من مبدأ الإيمان بالتعددية سواء في سياقها الديني أو الاجتماعي أو السياسي فقد ارتكز الفكر القابوسي على مبدأ احترام التعددية المذهبية والدينية والاجتماعية في عمان ، بل والعمل على حمايتها أيضا بالقوانين التي تكفل للجميع ممارسة الشعائر الدينية والتقاليد الاجتماعية بكل حرية في إطار السياق التعددي في السلطنة ، ولذلك لا عجب أن تشيد التقارير الدولية التي تراقب مجال الحرية الدينية في العالم بفضاء التسامح والحرية الدينية في السلطنة .
واليوم وصاحب الجلالة المعظم يغادرنا إلى ألمانيا من أجل عمل بعض الفحوصات الطبية فإن الواجب الوطني والإنساني يلزمان علينا الدعاء لهذا القائد والوالد والإنسان أن يحفظه الله ويرجعه إلينا وهو يرفل بثوب الصحة والعافية ، وترك الشائعات التي لا شك بأنها تشهد رواجا في الأيام القادمة من المصادر المشبوهة التي لم تكن يوما تتمنى خيرا لهذه البلاد وشعبها العظيم .