لعل الظمآن المتعطش لجرعة ماء في هجير الصحراء، هو أكثر من يتراءى له السراب على أنه بحر من الماء الزلال. وأحسب أن حال الملايين من العرب والفلسطينيين، المروعين من طول أمد القهر وسادية الاحتلال وفجور مستوطنيه، يحاكي حال ذلك الظمآن التائه بين كثبان الرمال، وهو يرى المواجهات في بعض ضواحي القدس على أنها التباشير الأولى للانتفاضة الثالثة التي يتحرق الجميع لاندلاعها، بعد كل هذه الاستباحات والاستعصاءات والغطرسات الإسرائيلية المتواصلة.
إذ بدا للكثيرين أن واقعة اختطاف وحرق الفتى محمد أبو خضير، هي الشرارة التي ستشعل الحريق في حقل من الهشيم، أو قل النقطة التي طفح بها كأس الصبر على جرائم الاحتلال العنصري البغيض؛ لاسيما أن ردود الأفعال المنددة بهذه الفعلة غير المسبوقة، انهالت من كل حدب وصوب، وخلقت المناخ المواتي لإطلاق موجة عارمة من الردود المحلية على الأرض، تتراكم وتعيد إلى الأذهان تلك المشاهد التي واكبت الانتفاضة الأولى، ورافقت البدايات المبكرة من زمن الانتفاضة الثانية.
غير أن التدقيق في الصور الآتية عقب ذلك التشييع المهيب لجنازة الفتى الشهيد، لا تشير، مع الأسف، إلى أن المواجهات الليلية مع الاحتلال، المتموضعة أساساً في شعفاط وبعض هوامش البلدات العربية المحيطة بالقدس، هي المقدمات الأولى لانتفاضة جديدة، حتى لا نقول إن محدودية المشاركين في هذه الاحتجاجات، واقتصارها على عدد من الشباب المفعم بالوطنية والمفتقر، في الوقت ذاته، إلى خطاب سياسي محل إجماع شعبي وتوافق فصائلي، هي واحدة من بين دلائل كثيرة على أننا بعيدون عن وقوع انتفاضة جديدة.
صحيح أن هناك احتفاءً شديداً بهذه المواجهات المتفرقة، وإلحاحا من جانب القوى الإسلامية على المضي بهذه الفعاليات، وتوسيع نطاقها لتشمل الضفة الغربية كلها، إلا أن من الصحيح أيضاً أن هناك إحجاماً ظاهراً من جانب القوى الوطنية، ومعها الكتلة السكانية المركزية، لاسيما في المدن والمراكز الحضرية، عن الاستجابة لدعوات النزول إلى الشوارع، ومجابهة الاحتلال بكل وسائل المقاومة المشروعة؛ الأمر الذي يؤكد أن ما يجري قد يكون أكثر من هبة جماهيرية، لكنه أقل من انتفاضة شعبية.
وباستذكار وقائع انتفاضة الحجارة التي اندلعت قبل نحو ربع قرن، ومطابقتها مع الوقائع الراهنة، نجد أن القيادة الوطنية الموحدة لتلك الانتفاضة الباسلة، كانت ذات خطاب واقعي، وبرنامج عمل وطني جامع، شاركت في صياغته النخب السياسية والثقافية، والشخصيات الاعتبارية، إلى جانب الاتحادات والنقابات وغرف التجارة والصناعة، فضلاً عن طلبة الجامعات، وكل من يشكلون البرجوازية الوطنية الفلسطينية التي كانت رافعة تلك الانتفاضة؛ ملهمتها وحاضنتها الأساسية.
وبمقارنة ذلك المشهد البعيد بالمشهد القائم الآن، فإن المرء يكاد لا يعثر سوى على فئات من الشباب الغاضبين، ممن يعتقدون أن الانتفاضة مجرد رمي حجارة، وحرق إطارات مطاطية، وتصريحات نارية موجهة ضد الاحتلال والسلطة الفلسطينية معا. الأمر الذي يزيد من الارتياب، ليس بالدافعية الوطنية لهؤلاء الغاضبين، وإنما بالأهداف الخلافية المرتجلة لاحتجاجاتهم الموضعية هذه. وهو ما يجيب عن السؤال المقلق عن سبب نأي الجماهير الفلسطينية عن التورط في لعبة تدمير الذات، والإنزلاق إلى القوة العسكرية المفضلة دائما لدى المحتلين العنصريين.
وقد تكون الذكريات المريرة، والدروس المستخلصة من فوضى الانتفاضة الثانية أواخر العام 2000، هي التي تحول دون الاستجابة الانفعالية لمظاهر الاحتجاجات الشبابية المتفرقة، وتمنع الانجرار وراء رغبة إسرائيل في إعادة تدمير كل المكتسبات الفلسطينية الضئيلة، وتقويض كل الإنجازات السياسية المتواضعة، على غرار ما قامت به إبان انتفاضة الأقصى، والتي أدت إلى إعادة احتلال الضفة المحتلة، وإقامة جدار الفصل العنصري، وإضعاف السلطة الوطنية، ومحاصرة زعيمها الراحل ياسر عرفات حتى الموت، من دون أن تؤدي إلى أي مكسب يعتد به.
إزاء ذلك كله، فإننا اليوم أبعد ما نكون عن انتفاضة شعبية، وإن كنا أقرب من ذي قبل من اندلاع موجة مواجهات عسكرية محدودة؛ جوية وصاروخية، بدأت نذرها حول قطاع غزة. الأمر الذي سيقطع الطريق على انتفاضة جديدة، طالما أن السلاح وحده سيكون هو الحكم في المواجهة غير المتكافئة مع الاحتلال الفاشي المديد.