قواعد اللعبة في المنطقة تتغير، والترتيبات التي نفذها الغرب في العالم العربي تتهاوى، والحدود التي رسمها “سايكس-بيكو” تترنح، مما يعني أننا أمام واقع جديد، فالمسلحون من مقاتلي “داعش”، قاموا وللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث، بإزالة الحدود والأسلاك الشائكة والمعابر بين العراق وسوريا، وتحول اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الذي كان نظريا حتى وقت قريب إلى حقيقة على الأرض، فخارطة عمليات “داعش” تمتد من الفلوجة العراقية وحتى مدينة حلب السورية.
بطبيعة الحال من البلاهة اعتبار ما يجري حقائق نهائية، لكنها مجرد إشارات رمزية للتغيرات التي تجتاح العراق وسوريا والمنطقة، وهي تغيرات تدخل المنطقة إلى عصر جديد ما زالت ملامحه غير واضحة، فهناك شبه انهيار لمنظومة ما بعد الحقبة الاستعمارية المباشرة، بما في ذلك، الاحتلال الأمريكي للعراق، فكل ما قامت به أمريكا في العراق ينهار بسرعة البرق، أمام بضعة آلاف من المقاتلين.
لا نعرف على وجه التحديد من يقاتل على الأرض، وما هي القوى الضاربة التي تحقق هذه الانتصارات السريعة ضد ما يقرب من مليون جندي في جيش المالكي، فنحن أمام صورة غائمة جدا رغم التركيز على “داعش” وتحويلها إلى قوة عظمى، وهذا فيه الكثير من التجني والتزييف، فهذه الحركة الغامضة التي يبلغ عدد مقاتليها 7 آلاف مقاتل على الأكثر، لا تستطيع أن تحقق كل هذه الانتصارات التي تمتد من الموصل إلى مشارف بغداد وفي غضون أيام قليلة، وهي لا تملك أسلحة ومعدات ووسائل نقل كافية للسيطرة على كل هذه الأرض مرة واحدة، ولو كانت تملك كل هذه القوة فلماذا لم تستطع هزيمة نظام الأسد في سوريا أو الانتصار على قوى الثوار التي تتقاتل معها في دير الزور ومناطق أخرى، وهذا يفند الكذبة الكبرى التي تتحدث عن “داعش” بوصفها إمبراطورية مسلحة لا تغيب عنها الشمس.
من قاتل على الأرض هم المسلمون العراقيون من أبناء العشائر والقبائل إلى جانب “داعش” بالطبع، وهم الذين يتصدون لنظام المالكي الشيعي الطائفي الإقصائي بعد أن سد كل السبل في وجه أي حوار أو استجابة لمطالب الأغلبية المسلمة في العراق، فكان من الطبيعي أن يسوق نور المالكي والسيستاني ونظامه الطائفي الأمر على أنه هجوم “إرهابيين” من القاعدة وداعش من أجل استعطاف دول الجوار والقوى العالمية لدعمه وإرسال الجنود لمساعدته على قتال أهل العراق من المسلمين “السنة”.
لكن خطة المالكي فشلت بدخول المرجع الشيعي السيستاني على الخط وإعلان “الجهاد” لمحاربة الإرهابيين من “الوهابيين والتكفيريين”، وإعلان المالكي تشكيل الجيش الشيعي الرديف، وبداية تدفق المتطوعين الشيعة لمقاتلة “الكفار الوهابيين” والإسناد الذي تلقاه المالكي والسيستاني من الرئيس الإيراني حسن روحاني بالتعهد بمقاتلة “الإرهابيين” في العراق، ودعوته الرئيس أوباما إلى التعاون في العراق للقتال ضد الثائرين على حكم المالكي، ورهن استمرار التعاون الإيراني الأمريكي بدخول واشنطن طرفا في الحرب ضد “الجماعات الإرهابية” في العراق وسوريا وأماكن أخرى. لكن واشنطن ولندن وحلف الناتو أعلنوا بوضوح وبسرعة: “لن نعود إلى المستنقع العراقي ثانية”، نحن سلمناكم العراق على طبق من ذهب وعليكم أن تحافظوا على ما أعطيناكم بأنفسكم.
متى تسقط بغداد بيد المسلحين؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يترقب العالم الإجابة عليه، ويبدو أن سقوط بغداد أو تحريرها من حكم المالكي ستكون هي الصورة المعاكسة لاحتلال بغداد من قبل الأمريكيين عام 2003، وهو ما يقلق إيران التي أرسلت حوالي 3000 عنصر من فيلق القدس من أجل وقف انهيار نظام الحكم الشيعي هناك.
الغالبية العظمى من الأنظمة العربية المجاورة للعراق تدعم المالكي، وهي تفضل الحكم الشيعي والهيمنة الإيرانية على سيطرة الجماعات الإسلامية على العراق، وهو من يقلب الطاولة مجددا لبناء تحالفات جديدة من أطراف يتم تسويقها على أنهم خصوم أو “أعداء مفترضون”.