أعتقد جازماً أن قسماً من السوريين سيدخلون التاريخ أو موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأكثر الشعوب تلذذاً بمصائبها وكوارثها وعذاباتها، فلم يحدث في تاريخ العالم أن أناساً تلذذوا بالرقص والدبكة والغناء على حطام وطنهم كما فعل، ويفعل بعض المغفلين، إن لم نقل المنحرفين السوريين. فقد أنفق بعض السوريين الموالين للنظام ما قيمته ملايين الدولارات من الرصاص قبل أيام احتفالاً بفوز بشار الأسد بمنصب الرئاسة لفترة رئاسية ثالثة. وقد قدر بعض المعلقين المبالغ التي صرفوها على رصاص الاحتفال بأنها يمكن أن تعيد بناء مئات المدارس والمشافي المدمرة. والأغرب من ذلك أن مئات السوريين سقطوا بين قتيل وجريح نتيجة الرصاص المتطاير بشكل عشوائي مجنون في كل حدب وصوب. وأقام البعض الآخر الأفراح والليالي الملاح في المناطق التي يسيطر عليها النظام للغرض نفسه. ولو تابعت وسائل الإعلام السورية، خاصة فضائيات السلطة، لأخذت انطباعاً أن سوريا انتصرت على أمريكا، وهي تتربع الآن على عرش العالم، وليست بلداً مُدمراً.
ربما يغفر البعض للذين ملأوا سوريا ضجيجاً احتفالياً في الأيام الماضية، على اعتبار أن ما فعلوه ليس احتفالاً في واقع الأمر، بل تعبير فرويدي عميق عن حالة القلق والرعب والخوف التي تنتاب المحتفلين المؤيدين للنظام. وبالتالي فإن مظاهر الاحتفال ليست سوى تغطية نفسية على القلق القابع في نفوسهم. ولو أردنا أن نشبه حالة الاحتفال والرقص الجنوني التي اجتاحت بعض السوريين المؤيدين، لربما شبهناها بحالة الشخص الخائف الذي يسير في الظلام وهو في حالة رعب شديد، فيقوم بالغناء بصوت عال جداً كي يطرد الخوف من نفسه، وكي يخيف من قد يحاول أن يتعرض له بأذى.
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر حالة الجنون المرضي التي اجتاحت بعض السوريين في الأيام الماضية إلا بأنها أشبه بمرض نفسي لا يمكن أن تخطئه عين. فليس هناك ما يدعو للاحتفال في سوريا، بأي حال من الأحوال، لا للمؤيدين ولا للمعارضين، وهو ينم عن انحراف اجتماعي لم يشهد له العالم مثيلا. فمن المعروف اجتماعياً في بلادنا أن الناس تحاول أن تتضامن مع جيرانها فيما لو تعرضوا لمكروه، لهذا إذا كان بعضهم على وشك أن يحتفل بمناسبة زفاف، فيقوم على الفور بتأجيلها إذا توفي أحد الجيران في الحارة، وذلك احتراماً لمشاعر المكلومين، أو على الأقل يقوم بالتخفيف من مظاهر الاحتفال بالمناسبة كي لا يؤذي مشاعر الجيران المنكوبين بحادثة وفاة أو مكروه عظيم. لكن الذين احتفلوا بنتيجة الانتخابات المعروفة سلفاً لم يرمش لهم جفن وهم يتراقصون على ركام وطنهم وآلام ملايين المنكوبين من أبناء جلدتهم.
كيف يحتفل المؤيدون في بلد نزح فيه حوالي ثمانية ملايين من بيوتهم التي تعرضت للدمار، وأصبحوا عالة على المدن والقرى الأخرى، ولا يستطيعون الآن تأمين رغيف الخبز لأطفالهم، فما بالك الدواء. وحدث ولا حرج عن حوالي خمسة ملايين لاجئ في الخارج يفترشون الطرق والأرصفة، ويتسولون لقمة الخبز في لبنان والأردن وتركيا ومصر وبقية الدول العربية والأجنبية، كيف يحتفلون وقد خسرت سوريا بنيتها التحتية تماماً؟ كيف يحتفلون بعد أن تحولت معظم مدن وقرى سوريا إلى أنقاض يرزح تحتها أكثر من مليون جثة لا أحد يعرف مصيرها؟ وكيف نسوا أن سوريا خسرت صناعتها ومصانعها ومصدر رزقها وآبارها النفطية، بينما تحولت معظم أراضيها الزراعية إلى أرض محروقة؟ كيف يحتفلون وقد غدا بلدهم ساحة صراع يحارب فوقها كل من هبّ ودبّ من معظم أنحاء العالم؟ إنها قمة المازوخية، ذلك المرض العقلي الذي يصور حالة الذين يتلذذون بمصائبهم وعذاباتهم.
والأنكى من ذلك أن المحتفلين ومن يقف وراءهم يحاول أن يصور نفسه على أنه منتصر دون أن يدري أن كل من يتحدث عن انتصارات أو إنجازات أو صمود في سوريا، نظاماً أو معارضة، يضحك، أو يسلي نفسه بحكايات خرافية. فطالما بقي النظام في دمشق، فهذا انتصار للنظام وهزيمة للمعارضة، لكن طالما بقيت المعارضة في المناطق التي حررتها، فهذه أيضاً هزيمة كبرى للنظام، لا يمكن للنظام أن يعلن النصر النهائي إلا عندما يستعيد السيطرة الكاملة على كل حلب وإدلب ودير الزور والرقة والحسكة والقامشلي وريف اللاذقية وريف حماة وريف حمص وريف دمشق ودرعا. وهذا طبعاً أصبح مثل حلم إبليس في الجنة على المدى المنظور، وبالتالي، من المضحك أن يتفاخر النظام ومؤيدوه بالنصر، ويرقصوا، إذا كانت مناطق شاسعة من سوريا خارج سيطرة النظام.
وبالمقابل، طالما بقي النظام مسيطراً على العاصمة ومراكز العديد من المدن، فلا يمكن للمعارضة أن تتحدث عن نصر.
الوضع في سوريا أصبح عبارة عن عملية تقاسم نفوذ، وهذا ما يجب أن يفهمه المحتفلون الأغبياء. وقد حذر المبعوث الدولي الأسبق إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي من أن سوريا مقبلة على “صوملة” من النوع الخطير، مع العلم أن الصوملة وقعت، وترسخت في سوريا منذ سقوط الكثير من المناطق تحت سيطرة قوى المعارضة، وتحولها إلى إمارات وإقطاعيات.
غالباً ما يحتفل الناس الأسوياء بتحرير الأرض، لا بسقوطها في أيدي الأعداء، كما يفعل المؤيدون للنظام السوري. بكل الأحوال، لا يحق لأحد، لا معارضة ولا نظاماً، أن يحتفل في سوريا بعد كل ما حل ببلدهم من خراب ودمار وهلاك. كيف يحتفلون بعد أن وصفت الأمم المتحدة الكارثة السورية بـ”مأساة القرن”؟
ما أحقر الراقصين على حطام الوطن!