رغم غزارة ما قرأت من مواد منشورة عن تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وكثرة ما استمعت إليه من جانب باحثين مختصين بشؤون الجماعات الجهادية، حول نوازع هذا التنظيم الذي بات يتصدر قمة الاهتمامات العامة في هذه الآونة، إلا أنني بقيت حتى الأمس القريب غير قادر على فك لغز “داعش”، وفهم مغزى عنفه المفرط حد التوحش، إزاء أعدائه ومنافسيه، بمن في ذلك أشقاؤه في النشأة والعقيدة والغاية، ناهيك عن تمرده على زعيم “القاعدة”.
فقد بدت لي مقارفات هذا التنظيم الموغل في استسهال قتل كل من يخالفه الرأي، ناهيك عن توثيق أفعاله الدموية وإشهارها بصورة استعراضية، على أنها مجرد تعبير فج عن التعصب والأنانية، ومظهراً من مظاهر التخلف الحضاري، وسوء تقدير بالغ لأهمية الحفاظ على حاضنته الاجتماعية، لاسيما بعد أن شاهدنا جلاوزته يقتلون على الشبهة، ويدخلون في صراع مفتوح ضد نظامين لهما مرجعية إقليمية واحدة.
ذلك أن أداء هذا التنظيم الذي يشكل “المهاجرون” أغلبيته في سورية، فتح سلسلة لا نهاية لها من الحروب ضد شركائه في القتال ضد النظام، سواء أكانوا من كتائب الجيش الحر أو من الفصائل الإسلامية، ولم يستثن أحداً من فسيفساء المجتمع الذي زعم أنه جاء لنصرته من جور الطاغية؛ إذ أعمل سلاحه وأغلظ القول ضد الجميع، من عرب وأكراد وآشوريين وغيرهم، من أجل انتزاع البيعة لأمير دولته المحجوب عن رؤية رعاياه، فظهر كمن يقامر بكامل رصيده على المائدة.
الحق أن بعض مفاتيح هذا اللغز لم تنفتح لديّ إلا في الأيام القليلة الماضية، على ضوء نتائج التطورات الأخيرة في المشهد العراقي. إذ تبين لي أن “داعش” كان يستثمر جيداً في أعماله الوحشية، ويراكم طويلاً على الصورة الذهنية التي تكونت لدى الكافة عن قسوته وشدة فظاعاته الانتقامية. وهو ما تجلّى في الانهيار المفاجئ، أو قل الهروب الكبير لفرق عسكرية عراقية مدججة، أمام أول هجوم منظم تصدرته وحدات خفيفة لهذا التنظيم في الموصل وتكريت وغيرها.
إذ من الممكن تعليل هذا الانهيار المفاجئ لقوات نوري المالكي في نينوى والأنبار وصلاح الدين، بخواء العقيدة القتالية لجيش ذي تكوين مذهبي، أو رده إلى قصور في الإعداد والتدريب لقوة تم بناؤها على عجل، وإقحامها في الخلافات السياسية. إلا أن ذلك لا يكفي وحده لتبرير كل هذا الهروب المشين أمام “داعش”، من دون الالتفات إلى تلك الصورة المرعبة التي تكونت عن إرهابيين لا رحمة لديهم؛ يسفكون الدماء بغزارة منقطعة النظير، ويقطعون الرؤوس ويمثلون بجثث الأعداء، لا يعرفون أخلاقيات الحروب، ولا يأخذون أسرى، ويمضون في توظيف هذه الصورة المخيفة عن قتالهم المتوحش إلى ما لا نهاية.
ومع أن هذه الصورة المغرقة في دمويتها نجحت في العراق أخيراً، أكثر مما نجحت في سورية، وحققت في نينوى ما لم تحققه في حلب وإدلب مثلاً، إلا أن بعض الوقائع المماثلة التي قامت بها جبهة النصرة في الديار الشامية، كانت تؤدي هذه الغاية جزئياً. إذ عندما كانت تفشل بعض وحدات الجيش السوري الحر في اقتحام موقع لجيش الأسد، كانت تعود مرة أخرى وهي ترفع رايات “النصرة”؛ الأمر الذي كثيراً ما كان ينزل الهلع في جنود الموقع النظامي، ويحملهم على الفرار، مغبة الوقوع بين أيدي جماعة بنت لها تراثا متوحشاً مشابهاً لسجل شقيقها “داعش”.
وإذا لم يكن الاستثمار المنهجي في الترهيب، والرسملة الكثيفة في التوحش، قادرين على فك ألغاز “داعش” التي انفض الكثير من أسرارها غداة انهيار الجيش العراقي مؤخراً، فإنه يحسن بنا انتظار التداعيات الكبرى لهذه الانعطافة العميقة في المجريات العراقية، التي قد تغير وجه الشرق الأوسط القديم، وذلك كي نتيقن من حقيقة أن الصور ومقاطع الفيديو التي كان هذا التنظيم الارهابي يبثها بانتظام، لم تكن خبط عشواء، أو من قبيل العبث. إذ قد لا يمر سوى وقت ضئيل حتى نرى أن هذه الصورة البانورامية الممتدة من شمال العراق إلى شمال سورية، كانت توظف ببراعة في خدمة الحرب النفسية.