بدا عبدالفتاح السيسي، وسط مظاهر الاحتفال الباذخ بتنصيبه رئيساً منتخباً لأكبر بلد عربي، واحداً من قادة مصر الكبار في تاريخها المعاصر، أو هكذا أراد له المحتفون به في ميدان التحرير وقصر القبة؛ أولئك المسكونون بحنين جارف إلى عهد القادة التاريخيين مثل جمال عبدالناصر. ومع أن هناك شوطاً طويلاً ما يزال على الرجل القادم من مؤسسة الجيش اجتيازه بجدارة، كي يُخرج بلد التسعين مليوناً من عنق الزجاجة، ويعيد لها مكانتها السابقة، إلا أن المشير الذي بات رئيساً معترفاً به في الداخل والخارج، بدا ممتلكاً لمقومات الزعامة في وقت مبكر.
ويزيد من وزن هذا الرئيس الحائز على استحقاق الشرعيتين: الشعبية والدستورية، في البلد الذي يتوسط قارات العالم القديم، إدراكه جزالة الآمال المعلقة عليه، وجسامة المهام الملقاة على كتفيه، فضلاً عن الظروف المعقّدة التي أنتجته، وطوّبته رجل مرحلة مصيرية فارقة، بين ماضٍ لم يمضِ تماماً، ومستقبل يراوغ على عتبة الانتقال من زمن الثورة إلى عهد الدولة. الأمر الذي يجعل من هذه المرحلة العاصفة في بر مصر وبحرها، لحظة السيسي بامتياز، أيا كان مبلغ الكراهية له من جانب المتميزين غيظاً من نجاحه، أو كانت درجة الرجاء التي تغمر أفئدة الملايين من حوله.
وليس من شك في أن سلسلة الاختبارات الصعبة التي مرّ بها رجل مصر القوي، على مدى نحو سنة ماضية، قد أهّلته للإمساك بزمام هذه المرحلة المصيرية التي ستُدون على أنها مرحلة السيسي، خصوصاً بعد أن استجاب لنداء الملايين المروعين من حكم المرشد؛ فأسقط نظاماً استبدادياً كان قد اختطف ثورتهم، ثم جابه العنف والإرهاب بكفاءة متزايدة، وجرف بعد ذلك شعبية كاسحة، تأكدت حقيقتها داخل صناديق الاقتراع التي حصدت له أكثر من 23 مليون صوت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
والحق أنه ما كان للحظة السيسي هذه أن تتحقق على هذا النحو الباهر، لو أنها اخفقت في مخاطبة عالم عربي كان يفتقد “المحروسة” منذ نحو أربعة عقود خلت؛ إذ لا يمكن لباحث سياسي أو مؤرخ إغفال حقيقة أن احتضان العرب للشقيقة الكبرى في ساعة الشدة، سواء بالتضامن الشعبي والمؤازرة السياسية أو بالدعم المالي، كان أحد أهم العوامل التي كرست لحظة السيسي هذه، ومنحتها قوة إسناد مواتية لأشرعة سفينة مصرية متهالكة.
وتأسيساً على حقيقة أن الحدث المصري لم يكن في أي يوم مضى مجرد حدث داخلي فقط، فإنه ينبغي فهم هذا التطور الذي أمسك السيسي بمقاليده، على أنه شأن عربي أيضاً. الأمر الذي يفسر مغزى هذا الاحتشاد الرسمي العربي وراء القائد الأعلى للجيش الكبير الباقي وحده بعد تفكك جيشيّ العراق وسورية، والمعول عليه لإعادة التوازن لواقع إقليمي مختل بشدة؛ بما صب القمح في طاحونة السيسي، وشد من عضده لمواصلة العبور نحو مستقبل مرتجى لمصر والأمة العربية.
ولعل هذه الحفاوة العربية البالغة بتنصيب السيسي رئيساً لمصر العربية، كانت تعكس في واقع الأمر مدى الرهان الذي يعقده العرب على هذه اللحظة المصرية المأمول بها، شعبياً ورسمياً، لعودة الروح القومية المضيّعة، وإعادة بناء شيء من معادلة القوة المبددة، ووقف هذه الاستباحة المتمادية، والحد من هذا الاستقواء على شعوب الأمة التي أصابها المرض عندما مرضت مصر، وما كان لها أن تتعافى إلا بعد أن يستعيد قلب العروبة النابض نبضه، وتسترد الأمة عافيتها بالضرورة، وفق ما تزخر به الوقائع التاريخية الزاهية في زمن المرحلة الناصرية.
إزاء ذلك كله، فإن المرء يجد لديه كل الشجاعة الأدبية والسياسية للقول إن هذه اللحظة الباذخة في حياة مصر والعرب، هي لحظة عبدالفتاح السيسي، من دون أن يسقط من ذهنه بعض ارتدادات هذا الزلزال المصري على مسألة الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية التعبير والتظاهر. وهي مسألة يمكن القبول بها مرحلياً، وفهمها موضوعياً وفق مفهوم الضرورات، في ظل حالة أحسب أنها ستكون مؤقتة، إلى أن يتم دحر العنف والإرهاب، وتحقيق قدر من الأمان والاستقرار، وإعادة عجلة الحياة الاقتصادية إلى الدوران بوتيرة مقبولة.