حسناً، لو لم يتصد اللواء متقاعد خليفة حفتر للثورة الجديدة في ليبيا، فمَن مِن الممكن أن يكون الثائر التالي؟
كل ثورة كبيرة يليها زمنياً عدد من الثورات التوابع بعضها مكمل للثورة الرئيسة، وبعضها داعم لها، وبعضها مخالف لها، وبعضها الرابع دائماً بلا طعم ولا لون ولا رائحة، ولا تأثير أيضاً!
تأتي الثورة الكبيرة الأولى عادة بلا قائد، تتجه الجماهير ناحية الخلاص دفعة واحدة وبرتم واحد، وتحفر طريقها على الأرض بشكل جماعي. ربما يخرج قائد هنا يركب الموجة، وقائد هناك يدّعي صنع الموجة، لكن القائد الحقيقي والفاعل في كل ثورة كبيرة هو الفعل الجماهيري الذي تذوب في تنوره التوجهات والغايات والمطالب والحاجات كافة. وعلى خلاف ذلك، تحتاج كل ثورة تابعة إلى قائد يشعلها وجماهير نوعية تؤمن بها.
للثورة الكبيرة هدف واحد فقط، تتفق عليه الجماهير من كل الأطياف والأجناس والخلفيات والمعتقدات. لكل ثورة كبيرة غاية واحدة لا ثاني لها، الوصول بوضع ما قبل الثورة إلى خط النهاية، على أمل بأن يمثل هذا الخط أيضاً بداية لرحلة الخلاص، أما الثورات التابعة فتتعدد أهدافها بتعدد قادتها وجماهيرها النوعية.
ثورة ليبيا لم تكن خارجة عن هذه الإطار. اندفعت الجماهير كافة للخلاص من العقيد معمر القذافي. اتفقت مكونات الشعب الليبي كافة على أن القذافي لم يعد الرجل المناسب لحكم ليبيا، فتدافعت للوصول إلى خط النهاية الذي يمثل «ليبيا من دون القذافي»، والذي يمثل في الوقت نفسه خط البداية لمرحلة «الرفاه والمساواة والعدالة الاجتماعية».
وصلت الجموع بسلام إلى الخط النهائي، وتحقق الهدف الرئيس من الثورة، ووضعت العمليات الثورية أوزارها، وخرج المحتفلون إلى الشوارع، وصدحت الأغاني الوطنية في الإذاعات والتلفزيونات المحلية. كان الجميع يريد التخلص من معمر القذافي، كبار النخب المختلفة وعوام الناس، وكان لهم ما أرادوا. لكن وعلى طريق السنة الكونية، بدأت الأهداف الفئوية تظهر على السطح، قائد عسكري يريد الاستئثار بالكلمة العليا، ومواطن بسيط يريد رغد العيش فقط، ومواطن مهموم بالمشاركة الشعبية يريد تمثيلاً للجميع في البناء السياسي الجديد، ورجل دين يقول إن الله سبحانه وتعالى هو مديره المباشر، وبالتالي فعلى الجميع أن يخضعوا لرأيه، لأنه ينقل عن الرب مباشرة.
من بين هؤلاء خرج اللواء متقاعد خليفة حفتر في ثورة تابعة، خرج يرسم أهدافاً جديدة ويحشد أتباعاً جدد، فكيف يمكن أن نقوّم ثورته التابعة هذه؟ هل هي انتصار شخصي محض، أم التزام بمسؤولية وطنية تفرضها عليه عقيدته العسكرية التي لم يجف دمها – وحبر تقاعدها – بعد؟
بالنظر إلى تاريخ الرجل من جهة ومدونة سلوك القادة العسكريين بشكل عام من جهة أخرى، فإنه لا يمكننا فصل هذه الثورة التابعة عن المصالح الشخصية لمشعلها. حفتر كان قائداً عسكرياً مقرباً للرئيس السابق، وكان يتنعم في الديكتاتورية القذافية، فيما الشعب الليبي يتعرض لأقسى أنواع المهانات والظلم. كان يداً صارمة وقاسية للعقيد يطلقها لتأديب معارضيه في الداخل والخارج، لكن عندما تنكر له العقيد في تشاد انشق وأصبح معارضاً. كان ولاؤه بثمن، ومعارضته بثمن، وانضمامه للثورة الكبيرة بثمن، فما الثمن يا ترى الذي جعله يشعل ثورته التابعة؟
عُرف عن الثورات أنها تأكل أبناءها، وما ذلك إلا لأن هؤلاء الأبناء لا يرتضون الركون إلى الظل بعد التعرض لشمس الثورة الكبيرة. هم في العادة يسقطون في فخ الظهور ما بعد الثورة، لأنهم يطمحون دائماً إلى قبض ثمن مشاركتهم على هيئة تمثيل رئيس في مجلس القيادة الجديد.
حفتر لم يكن استثناء، لكن لذكائه الحاد وموهبته الكبيرة في استشراف المستقبل أجّل الظهور قليلاً حتى يتساقط أبناء الثورة واحداً بعد الآخر، وتصل اختلافات الأبناء البقية إلى ذروتها. اختار أن يتأخر عن ركوب «عربة المنطق» حتى يقطف الثمرة الأخيرة. ظل في الظل نموذجاً شعبياً، ثم انقض على «جميع المختلفين» رمزاً جديداً مخلصاً!
جاء ليقول إنه ضد تقسيم ليبيا، وضد انتشار الميليشيات المسلحة التي يحركها قادة الثورة السابقون، وضد الإسلامويين الذين يريدون من الجميع أن يخضعوا لرأيهم ورؤيتهم للحياة والسياسة. جاء ليقول إنه مع المواطن البسيط في طلب رغد العيش، ومع المواطن المثقف المشغول بالتمثيل النيابي النزيه والشفاف. وفوق هذا كله، اختار الرجل الذكي «الإخوان» عدواً رئيسياً له ليضمن الدعم الإقليمي.
لا بأس في كل ما يُظهر. ليبيا تحتاج إلى كل ذلك، لكن على الليبيين أن يحذروا مما يبطن الرجل! مرحباً بحفتر قائداً مخلصاً، لكن ليبقَ دائماً تحت مراقبة الشعب من خلال لجنة حكماء غير منتخبة. حفتر ليس عبدالفتاح السيسي، وعلى الليبيين دائماً أن يضعوا هذه المقارنة أمام أعينهم: السيسي صنعته الأقدار، أما حفتر فإنه يصنعها!
* كاتب وصحافي سعودي