راغدة درغام/ كيري يدفع ثمن إخفاقات أوباما

يبدو وزير الخارجية الأميركي جون كيري مخفقاً في الملفات التي استثمر فيها، على رغم أنه مفاوض دؤوب عازم على التوصل إلى الحلول مهما تراكمت العراقيل. واقع الأمر أن هذه إخفاقات الرئيس باراك أوباما بالدرجة الأولى، لأنه اختبأ وراء وزير خارجيته وأرسله في مهمات استطلاعية وليس بمهمات تنفيذية.

أوكل أوباما إلى كيري المهمات الصعبة من دون أن يدعمه بأدوات الإقناع اللازمة في الحالات المستعصية. وزير خارجية اللاسياسة الأميركية وجد نفسه يصنع السياسة الأميركية اعتباطاً أحياناً. البيت الأبيض وجد عند جون كيري ولاءً قاطعاً حتى عندما وضع أعباءَ اللوم على أكتافه حماية للرئيس الهارب من مسؤوليات القيادة. دق أوباما طبول الحرب عندما تحدث عن ضربة عقابية لنظام بشار الأسد في سورية، فتحوّل الحمامة كيري إلى صقر خالعاً عن نفسه سمعة السذاجة. وعندما تراجع رئيسه في الساعة الأخيرة عن الضربة العسكرية، عاد كيري حمامةً تطير في سرب الصقور.

كمفاوضٍ، أو كراعٍ للمفاوضات، يبدو جون كيري ضعيفاً بنيوياً بسبب تسرّعه في استنتاج حسن نوايا الآخرين فيما أولئك الآخرون يقهقهون خلف ظهره احتفاءً بما يعتبرونه عنوان السذاجة وواجهة السياسة الخارجية الأميركية المبعثرة والمتراجعة والهاربة من القيادة.

جون كيري لم يتعلّم من الدرس الذي مرّت به وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون في علاقاتها مع سيرغي لافروف، بالذات في مفاوضات «جنيف – 1» في شأن العملية السياسية الانتقالية لسورية. شعرت كلينتون بأن لافروف خدعها وأنه تعمّد تضليلها بموافقته على بيان جنيف ذي النقاط الست، ثم بالتملص منه بتفسير مختلف له لدى وصول البيان إلى مجلس الأمن في نيويورك للتطبيق.

جون كيري استرسل في افتراض حسن النية في كل مواقف لافروف – تلك التي سبقت مؤتمر «جنيف – 2»، والتي تبعته. فجأة وجد جون كيري نفسه في بطن ما حملت به السياسة الروسية والسورية والصينية والإيرانية المدعومة من «حزب الله». وجد نفسه هائماً ما بين زخم انتخابات رئاسية ترسّخ بشار الأسد في السلطة لسبع سنوات وبين احتضار «جنيف – 2» ومعها العملية السياسية الانتقالية في سورية.

لافروف «عملها» مرة ثانية بوزير خارجية أميركي آخر، إنما هذه المرة، غلَّف وزير الخارجية الروسي نفسه بالبراءة والتبرؤ من إجهاض العملية الانتقالية متظاهراً بأن قرار إجراء الانتخابات الرئاسية اتخذه بشار الأسد وهذا قرار سيادي لا تتدخل فيه روسيا. ولأن وزير خارجية اللاسياسة الأميركية مكبّل بوهن وتردد وتراجع رئيسه، وجد نظيره الروسي فيه أسهل المهمات.

اليوم تقضي روسيا عمداً على العملية السياسية التي أقرها بيان «جنيف – 1»، وأوضح أهدافها مؤتمر جنيف الذي كان من المفترض أن يسفر عن إنشاء هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة تليها انتخابات تحت إشراف دولي. سياسة التملص الأنيق مما تم الاتفاق عليه مع هيلاري كلينتون، ثم مع جون كيري وصلت إلى مرتبة جديدة.

فروسيا الآن لا تبالي بما يعجب أو يزعج الولايات المتحدة في سورية، لأن أولويتها أوكرانيا. وفي كلا الملفين، الديبلوماسية الروسية أكثر روسيةً مما هي ديبلوماسية هذه الأيام.

اليوم، تبدو الديبلوماسية الأميركية هي التي تحاول التملص من استحقاقات تتطلب منها، منطقياً، ألا تقف مكتوفة اليدين. ففي موضوع الانتخابات الرئاسية تكتفي واشنطن بالتهديد باعتبارها غير شرعية، وتسرع إلى القول أن ليس في اليد حيلة لإيقاف انتخابات في أي بلد كان.

لو كانت إدارة أوباما تمتلك سياسة جدية حقاً لاتخذت مواقف صارمة مع الصين كما في روسيا لإنقاذ العملية التفاوضية بدلاً من الرضوخ عند قولهما إن الانتخابات الرئاسية لا تتناقض مع المفاوضات على هيئة حكم انتقالي.

لو كانت إدارة أوباما ذات سياسة متماسكة يمكن الاعتماد عليها لما تركت المجال للهجمات والانتقادات من الحكومة السورية إلى ممثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، الأخضر الإبراهيمي، لمجرد أنه اعتبر أن إجراء الانتخابات يقوّض العملية الانتقالية السياسية. الأخضر الإبراهيمي يجب ألّا يستقيل الآن، لأن في استقالته رضوخاً أمام إملاءات النظام في دمشق مدعومة – كأمر واقع – روسياً وإيرانياً.

الإبراهيمي راهن على وفاق وتعاون أميركي – روسي لإيقاف النزيف في سورية، والتوصل إلى هيئة حكم انتقالي. كلاهما يخذله الآن سيرغي لافروف. يخذله لأنه أثبت عدم صدق رعايته «جنيف – 2» ودعمه الحقيقي لإنشاء هيئة حكم انتقالي. وصديقه الآخر جون كيري يخذله لأن السياسة الأميركية متقلبة بين منهج «اقبروا بعضكم» في المستنقع السوري وبين رعاية ضعيفة لـ «جنيف – 2» بلا عمود فقري وبلا التزام.

الأسوأ، أن الموقف الأميركي في الأمم المتحدة يبدو عائماً في أكثر من ناحية من الملف السوري – القرار 2139 الذي تبناه مجلس الأمن بالإجماع قبل شهرين لمعالجة جدية للكارثة الإنسانية، ما زال حبراً على ورق بلا جهود جدية لإجبار دمشق قبل تنفيذه وبلا محاسبة للذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب من الطرفين في سورية.

الوفد الأميركي لدى الأمم المتحدة يتردد في دعم التوجه الفرنسي لطرح مشروع قرار يحيل انتهاكات الحكومة السورية القانون الدولي وارتكاب جرائم ضد الإنسانية إلى المحكمة الجنائية الدولية. والسبب هو أن أميركا خائفة على إسرائيل، أي أنها تخشى أن تستخدم سورية، مثل هذا القرار لحالة الاحتلال الإسرائيلي الجولان إلى المحكمة الجنائية الدولية.

الأرجح أن أي مشروع قرار كهذا سيقابل بالفيتو الروسي، وهذا شبه مؤكد. فرنسا ترى أن لا ضرر في زج روسيا والصين في الزاوية من خلال مشروع قرار إنساني يتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فإذا شاءت موسكو أو بكين استخدام الفيتو ضد مثل هذا المشروع، فهي تزج بنفسها في زاوية اللاأخلاقية.

الوفد الأميركي يريد إدارة هوية وكمية وتوقيت طرح مشاريع القرارات المؤهلة للفيتو الروسي حتى الآن، لم تتخذ واشنطن القرار السياسي لفيتو روسيا آخر في المسألة السورية، الفيتو أصبح جزءاً من الصفقات – للتهدئة أو للتصعيد – بينما مجلس الأمن في شلل، بل وفي استرخاء مذهل أمام الكارثة الإنسانية التي تتفاقم في سورية.

جون كيري ليس وحده المسؤول عن هذه السياسة. فالاسترخاء واضح على مستوى أعلى حيث الرئيس باراك أوباما يسترخي كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال.

الرئيس أوباما يريد الوزير كيري أن يكون ناشطاً وناشطاً جداً في المفاوضات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في إطاره + 1. يريد له أن يعطي الأولوية لذلك الملف على جميع الصعد بما في ذلك صيانة العلاقة مع روسيا. فالرئيس الأميركي يريد تجنب كل ما من شأنه أن يجبره على المواجهة. لديه أدوات أخرى للضغط وللمساومة مع إيران، وهو ليس في وارد المواجهة. إنه حريص على العلاقة مع روسيا والصين للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران يرفع عنه عبء المسألة.

فلسطينياً وإسرائيلياً، وضع باراك أوباما وزيره وحيداً بين أسلاك وأشواك ملف المفاوضات نحو حل الدولتين وتحقيق سلام فلسطيني – إسرائيلي. فلقد ذاق الرئيس الأميركي المرارة الإسرائيلية عندما حاول وضع ذلك الملف على سكة الحلول التي تتطلب مواقف أميركية جريئة. فلو نجحت جهود كيري بسبب صبره وإصراره، لاحتفى الرئيس ووزيره بالنتيجة، أما إذا انزلق في هفوة هنا أو تعبير صريح هناك، فاللوم على الوزير وحده.

ما قاله جون كيري عن مصير إسرائيل في حال فشل حل الدولتين، وإقامة الدولتين حقاً بدهياً، إنما استخدام جون كيري كلمة «آبارتهايد» وصفاً لذلك المصير أقام الدنيا في الولايات المتحدة. كيري اعتذر لاستخدام التعبير لكنه لم يتراجع عن تحذيره من مصير مشابه لإسرائيل إذا رفضت حل الدولتين. لكن، في الولايات المتحدة من الممنوع على أي كان أن يتحدث بصراحة كهذه وبتعابير كهذه عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

نسي الأميركيون الذين شنوا حملة شعواء على جون كيري، أن هذا الرجل كرّس شهوراً عدة من أجل صنع السلام للإسرائيليين والفلسطينيين. نسوا أن جون كيري حدّق في الفشل وتحداه بالأمل والعمل نحو تسوية للنزاع. حتى البيت الأبيض خذله وتركه بمفرده أمام عاصفة الانتقاد.

وأخفق جون كيري في ملف سورية، لأنه راهن على حسن النوايا الروسية فيما كان صديقه العزيز سيرغي لافروف يعد له خريطة تضليل طريق ويوصله إلى الحافة.

أخفق جون كيري، لأن رئيسه باراك أوباما اكتفى بتمني النجاح له وهو يضعه في الواجهة إمبراطوراً عارياً بلا أدوات ممارسة سلطات الإمبراطوية، إنما ليس كيري وحده في الواجهة، فالمرآة تعكس نمراً من ورق هو الرئيس باراك أوباما – أقله كما يراه العالم اليوم حتى إشعار آخر.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري