إذا كان لكل أزمة منطقها الخاص بها، وكانت سيرورتها تنطوي بالضرورة على تحديات لا يمكن السيطرة عليها مسبقاً، فإنها تنطوي، في الوقت ذاته، على فرص محتملة، ينبغي توظيفها بحصافة والمراكمة عليها بإتقان. وهو ما يملي على المأزوم واجب الاستجابة للتحديات التي لا مفر منها، وذلك من خلال التكيف مع المستجدات، والتعاطي مع متغيراتها برؤية جديدة، وذهنية متحررة من الأفكار النمطية، ناهيك عن تصليب الإرادة الذاتية، على قاعدة أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه.
على هذه الخلفية، فإن عوارض الأزمة الراهنة في مسار المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية المتعثرة حول سبل تحقيق اختراق ما في العملية السلمية المضللة، تتيح فرصة نادرة للخروج على قواعد هذه اللعبة المستهلكة، ومن ثم التأسيس لبنية تفاوضية جديدة، تقع على خطوط تماس الملعب ذاته، وتجري داخل الهوامش المسموح بها لإتمام المباراة السياسية، من دون التعرض لصافرة الحكم، ومن غير الانجرار إلى سياسة الدفاع عن المرمى، بسحب الفريق كله إلى منطقة الجزاء الخطرة.
إذ تلوح في آفاق هذه الأزمة المرشحة لمزيد من التصعيد والمواجهة، وربما للمرة الأولى منذ أن تم إرساء قواعد لعبة التفاوضات العقيمة هذه، إمكانية نادرة التحقيق، لتدفيع إسرائيل ثمناً ما، لم يسبق لها دفعه من قبل، ولم يخطر في عقلها السياسي المسكون بروح القوة المتغطرسة، قبول استحقاق كلفة فشل المفاوضات، وحمل أوزار وقف هذه العملية في أي محطة من محطاتها، طالما أنها محصنة ضد أي ملامة، وليست معرضة لأي تبعات ولا خسارات محتملة، باعتبار أنها سيدة اللعبة، وصاحبة المقام الذي تُساءل فيه عن تقلبات نزقها أو رضاها.
فبعد أكثر من عشرين عاماً على المراوغات المملة، تتهيأ لأول مرة فرصة سانحة لحمل إسرائيل على دفع ثمن فشل جولة مفاوضات، كانت تبدو من البداية لعبة لتقطيع الوقت، وإقامة المزيد من الحقائق الاستيطانية؛ وذلك عندما تنتفض الضحية، وتنهض من سباتها الطويل، وتبادر رداً على الصلف إياه، إلى استخدام ما في مخزونها الاحتياطي من مدفعية ناعمة، ونعني بذلك فتح ترسانة القانون الدولي، وإطلاق بعض القذائف الممهدة لوجبة أخرى، أوسع مدى وأشد دوياً من سابقتها.
بكلام آخر، فإن ما شرعت به القيادة الفلسطينية من خطوات أولى صغيرة، أي الانضمام إلى 15 معاهدة واتفاقية دولية، يُعدّ أول محاولة من نوعها لتغيير قواعد اللعبة الممسوكة بيد غيرها، وبدء الخروج التدريجي الممنهج من نفق المفاوضات المفتوحة إلى ما لا نهاية، ورفض التفاهمات القاضية بجعل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة شرطا لا يتحقق إلا عبر مثل هذه المتاهة، لاسيما أن خبرات السنوات العشرين السابقة، وما حفلت به من دروس ثمينة، تقول إن هذه الطريق مسدودة مسدودة، وإن نفق التفاوض الطويل لا يلوح في آخره بصيص شمعة واحدة.
لقد ظل الفشل المتكرر لجولات التفاوض المريرة السابقة يمضي من دون عواقب. وكان استئنافها مجدداً كحرث في البحر، أو كزرع في أرض مالحة، الأمر الذي كان التوقف معه والعودة إليه سيّان بالنسبة لإسرائيل المارقة. أما في هذه الجولة التي حكمت عليها سائر المراجع الإسرائيلية بالإخفاق قبل أن تبدأ، وضاقت بها ذرعاً لنحو تسعة أشهر كالحة، فقد وجد آخر احتلال على وجه الأرض نفسه في موقف دفاعي متهافت، يرغي بالعقوبات ويزبد، لعله يردع الضحية عن التقدم خطوة أخرى أهم على طريق الجلجلة، ويمنعها من استكمال عملية تغيير قواعد اللعبة.
على أي حال، فقد بدأت عجلة ترسيخ هياكل الدولة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال بالدوران التدريجي في ملعب الأمم المتحدة، وبات من المقدر لها التحول إلى لحظة تاريخية فارقة، على أن تجري أشواطها خارج ملعب القوة الذي تفضله إسرائيل في العادة، أي فوق أرضية حقوقية، وقوانين دولية، وشرعية أممية، لا يمتلك فيها ورثة الحكم العنصري في جنوب أفريقيا خيار تجاهل إرادة المجتمع الدولي، والتهرب من دفع استحقاقات العناد والمكابرة، بما في ذلك النبذ والعزلة، وسقوط ورقة توت القيم الأخلاقية والمُثُل التي تسلحت بها إسرائيل، وأمدتها بالتميز والمشروعية.