في لقاء جون كيري، مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي، يوم الخميس7/3/2014، ألقى الوزير اللوم على إسرائيل في الوصول بالمفاوضات إلى طريق مسدود، بإعلانها عن مشروع لبناء 700 وحدة سكنية في القدس وبتأخيرها أو رفضها لتحرير أسرى فلسطينيين لديها متفق على إطلاق سراحهم سابقا. يعلم كيري أن قادة إسرائيل يرفضون الوصول بالمفاوضات إلى سلام مع الفلسطينيين، بمثل ما يرفضون مشروعه لتأطيرها، لهذه الغاية؛ بل ويهاجمونه، وبأسلوب علني غير معتاد في علاقاتهم مع بلاده، بسبب إلحاحه على ضرورة استمرارها، لأن ذلك سيوصلهم، قريبا، إلى موقف يضطرون فيه للكشف عن حقيقة استخفافهم بها وبمشروع السلام كله، وبقواعد القانونين الدولي والإنساني، وأي محددات دولية أخرى، قانونية أو سياسية.
هذا الموقف الإسرائيلي مانع، بطبيعته، لأي إجراءات لبناء الثقة ضرورية لجعل المفاوضات إجراء مقنعا أو مقبولا. وهي إجراءات منوط بدؤها بإسرائيل وحدها، فهي دولة الاحتلال، والخيارات، في هذا الاتجاه، خياراتها هي.
لذلك فإن المطلوب منها، في النهاية، كيفما كان موقفها من المفاوضات، رفضا أم تهربا، أن تعلن، كدولة احتلال، التزامها بقواعد القانون الدولي المرعية، في تصرفاتها في الأرض المحتلة ومع الشعب الواقع تحت احتلالها، وأولى تلك القواعد هي أحكام اتفاقات جنيف الأربع لسنة1949، بالإضافة لميثاق روما المؤسس لمحكمة الجزاء الدولية. وهذه كلها تحرم على الدولة المحتلة، فيما تحرم، نقل جزء من سكانها لاستيطان المنطقة الواقعة تحت احتلالها. تلك السياسة، تحديدا، تعتبر، حسب تلك القواعد، جريمة حرب تقترفها الدولة المحتلة. ومعروف أن إسرائيل تقترف، في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، جرائم ضد الإنسانية لم يعد العالم قادرا على تجاوزها أو تجاهلها.
فقد أصبح عالم اليوم قرية كونية صغيرة صار المجتمع الدولي، فيه، يراقب تصرفاتها الكولونيالية، عن كثب، ويحاسبها عليها. وهو عالم انحسرت فيه قدرة لوبياتها على حمايتها، فلم تعد قادرة على خداع أحد. لقد وضعت تكنولوجيا المعلومات المجتمعات كلها، وخاصة منها المجتمع الأمريكي، أمام حقيقة تلك السياسات، فلم يعد هناك مجال للتجاهل.
لقد عقد “معهد البحث الأمريكي لسياسة الشرق الأوسط” في نادي الصحافة في واشنطن، في آذار الماضي، كمثال واحد فقط، مؤتمرا تحت عنوان “هل إسرائيل حليفة للولايات المتحدة؟” شارك فيه مختصون من المخابرات المركزية والجامعات ودبلوماسيون وعسكريون، تحدثوا فيه عن حقيقة علاقتها مع بلدهم، واستغلالها لهذه العلاقة والمتاجرة بأسرار وصلت لها، تحت ستار الصداقة أو التحالف، وضربت، في ذلك أمثلة كثيرة من الماضي.
هناك أيضا حملة دولية تبني نفسها في أوروبا وأمريكا، بشكل خاص، تطلق عليها تسمية ألـBDS، أو “إجراءات مقاطعة إسرائيل وتعرية سياساتها.” أخبار هذه الحملة صارت تملأ وسائل الإعلام. وهي تخيف مثقفي إسرائيل وسياسييها الذين يعلمون أن من العبث مقاومة تنامي زخمها بتناسي أسبابها. يتذكرون أن نظام جنوب إفريقيا العنصري حاول ذلك مع حملة مماثلة، فلم يستطع، وسقط خلال عشرين سنة من بدئها سنة1970.
من المؤكد أن كيري يعرف سطوة هذه الحملة، وقد هدد بنتائجها على إسرائيل أكثر من مرة. ومن المنطقي الافتراض أنه يستعين بتناميها عندما يصر على مواصلة المفاوضات، مدركا أن رفضها لها، كما كل مداوراتها الأخرى، ليس سوى محاولة لتقليل الضرر ما أمكن.
في هذه المداورات تدرج، أيضا، تهديداتها للفلسطينيين بالحصار الاقتصادي والمالي وبقطعهم عن مصادر قوتهم وإجراءات قاسية أخرى تلوح بها، ليمتنعوا عن محاولة الانتساب للأمم المتحدة ومنظماتها، ويقبلوا بتمديد المفاوضات، عل التمديد يأتيها بفرص مواتية أكثر، في المستقبل، فتنجو من ورطتها. ومن المؤكد أنها، في سبيل ذلك، ستطلق سراح فلسطينيين معتقلين لديها. على أنها تهديدات لم تعد تخيف الفلسطينيين، فإسرائيل لا تستيطع فعل أكثر مما فعلت، من قبل.
وهي مداورات لا تقنع أحدا. إذا كانت إسرائيل تريد سلاما مع الفلسطينيين، فماذا يضيرها لو انضموا للأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة؟ إذا كان الهدف إقامة سلام عادل مقبول وقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على الأرض المحتلة، فماذا لو كانت المفاوضات لترتيب العلاقة المستقبلية بين الدولتين؟ تلك هي استحقاقات السلام العادل، وهو ما ترفضه إسرائيل، ويثبت للعالم كله كذب ادعاءاتها.
هذه الحقيقة التي يعرفها كيري، هي ما يجعل خيارات الفلسطينيين بانضمام دولتهم للمنظمات الدولية المذكورة الباب الوحيد السلمي المفتوح أمامهم. وهاهم دخلوه، ليتحقق شرط أساس، ومهم، يجعل من المفاوضات خيارا مجديا، قد يتحول إلى طريق سالك نحو السلام.
على أنه، لكي ينتهي بالسلام، يحتاج لتدخل دول الجامعة العربية وبالتعاون الوثيق مع المجتمع الدولي لإفشال السياسات الإسرائيلية العنصرية بكل ما تمثله من اعتداءات على قواعد التعايش الدولي السلمي السياسية والقانونية والأخلاقية.