في عام 1978 عند كتابتي لأطروحة الماجستير وكانت تحت عنوان (العلاقة بين الدفاع الوطني والتنمية الاقتصادية) تناولت بإسهاب موضوع (الخدمة الوطنية) ونطلق عليها في العراق (الخدمة الإلزامية) أو (خدمة العلم)، تأكد لدي في حينها مدى ارتباط هذه الخدمة وبشكل وثيق بالدفاع من جهة والتنمية من جهة أخرى. إذ من غير المتصور عند جميع الاقتصاديين أن تجري تنمية في بلد ما ويخصص لها قسط كبير من الثروة الوطنية دون التفكير بسياج يحمي مخرجات التنمية ويدافع عنها باعتبارها وجها من أوجه المصالح الوطنية العليا، ونحن بالتأكيد نتحدث في هذا الصدد عن مرافق خدمية ومشاريع عملاقة استنزفت مخصصات مالية هائلة، على سبيل المثال لا الحصر مولدات الطاقة والسدود ومشاريع الماء ومصافي النفط والغاز والمطارات ومخازن الغلال والصناعات التحويلية.. والقائمة تطول، لهذا ليس من الغريب أن تأخذ معظم دول العالم بالخدمة الوطنية.
صحيح أن الهدف المباشر للخدمة الوطنية ينصرف إلى تطوير الدفاع عن الوطن من خلال تعظيم القوة البشرية المؤهلة للخدمة العسكرية، حيث يضاف الاحتياط (أفراد الخدمة الوطنية) إلى الملاك الدائم من تشكيلات ووحدات عسكرية تضم المتطوعين للخدمة العسكرية، لكن الآثار غير المباشرة لهذه الخدمة على التنمية تبقى إيجابية ولا يستهان بها على الإطلاق، الخدمة الوطنية في جانب منها شكل من أشكال التنمية البشرية، لأنها تصنع الشعب المنتج المنظم المنضبط الصبور، ومهما برعت واجتهدت فإن مراكز التدريب والتأهيل المدنية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تضارع المؤسسة العسكرية في هذا المجال، ذلك لأن العسكرية كمهنة تستند على قيم أصيلة لا تجتمع إلا فيها وهي في مجموعها تشكل مدخلات حيوية في برامج التنمية البشرية.
الإقبال على تمارين اللياقة البدنية والتدريب على مهارات مهنة الميدان وتمارين التحمل والإسعافات الأولية وتمارين السلاح وإطفاء الحرائق، والرمي الحقيقي.. وجميعها، كما أعلم، مواضيع شملها البرنامج التدريبي، من شأنها أن تقود إلى الانضباط والالتزام، التخطيط والتنظيم، الترشيد والاقتصاد، الصبر والتحمل، التنسيق والنظافة، الإبداع والابتكار، الصحة البدنية والنفسية.. قيم تتمحور حولها المهنة العسكرية ويحتاجها الفرد في حياته اليومية كما تحتاجها العائلة.. فكيف بالوطن! لاشك أن الأمم الحية بحاجة ماسة إليها ولولاها ما نهضت الشعوب وارتقت على مدى تاريخ الحضارات، ولا أظن أمة تطلعت للتقدم والنمو دون أن تكون قد هيأت شعبها لهذه المهمة وزرعت فيه منظومة القيم هذه ابتداء، ويبقى الإنسان قيمة عظيمة، لابد من الاعتناء به، باعتباره وسيلة التنمية وهدفها.
حجم السكان في الدولة عنصر قوة لا يستهان به، ليس فقط لأسباب تتعلق بالدفاع بل لأسباب أخرى تتعلق بالاقتصاد والتنمية، صحيح ليس هناك حجم مثالي للسكان، لكن يبقى هذا العامل أحد عناصر القوة، حيث تفتقدها الدول خفيفة السكان، ما يشكل لها هاجسا كبيرا، ليس فقط في الأمن، بل في الاقتصاد والتنمية أيضا، يتضاعف هذا الهاجس كلما زاد ثراء الدولة.. ما يدفعها للتعويض عن النقص العددي بالاستثمار الأمثل لجميع الموارد الوطنية المتاحة مادية وبشرية إلى جانب الاهتمام بالكيف بدل الكم، والنوع بدل الحجم.
في جانب الدفاع الوطني يتطلب من الدول الخفيفة بالسكان أن تضع برامجها على أساس:
1. تأهيل جميع القادرين على حمل السلاح للقتال وعدم الاكتفاء بشريحة الشباب، بل قد نضطر لتجنيد الفتية والنساء أيضاً عند الحاجة.
٢. الاهتمام بالتدريب ما يرتقي بمتوسط القدرة القتالية إلى أضعاف ما هو عليه الجندي في الجيوش العادية.
٣. تسليح حديث يوفر قوة نارية مضاعفة يجري تشغيله بأقل عدد من المقاتلين.
من دون شك فإن الأساسين أولا وثانيا يوفران الإمكانية للتعويض عن النقص العددي في السكان، طالما أن معيار المفاضلة في التوازن العسكري لا ينحصر بمجرد أرقام الموجود البشري من البشر، بل بقدر ما تنجزه هذه الأرقام على أرض الواقع وأقصد المهارة القتالية، هذا هو الأصل في المفاضلة.
شعب قطر محافظ ومتدين ولهذا أتوقع أن يلقى مشروع الخدمة الوطنية استجابة كبيرة، لأنه يرسخ معاني الإسلام وقيمه في حب الوطن والانتماء إليه، الجهاد بكل ما فيه من فداء وتضحية والقوة والصبر والتحمل والزهد ونبذ العادات السيئة المرتبطة بالترف، كما أنه سيقرب عشائر وشرائح المجتمع القطري بعضها مع بعض ويعزز من تماسكها وذلك من خلال صهر الفوارق الاجتماعية بين أبناء الشعب الواحد بدعوتهم للعيش فترة من الزمن في ظل ظروف متشابهة وتحت خيمة واحدة بكل ما فيها من تعب أو نصب، حيث تتعزز قيم الانتماء للوطن، ويلتقي الجميع على هدف نبيل واحد، ألا وهو الرغبة للمشاركة في الدفاع عنه، يتساوى في ذلك الغني والفقير، الصغير والكبير، المثقف والأمي.
وهنا تتوسع دائرة فهم الفرد للمواطنة وتتحول من مجرد كون المواطن مستهلكا لنعمة أفاضها الله سبحانه وتعالى على وطنه إلى دافع ضريبة يسدد فيها كلفة هذه النعمة بالدفاع عنها متى يتطلب الواجب ذلك.
ويبقى الحرص على إنجاح هذه التجربة ضروريا لأسباب لا تنحصر في الكلفة المحاسبية لكشوف وزارة الدفاع فحسب، بل تتعداها للكلفة الفرصية الضائعة غير المنظورة للمؤسسات والقطاعات والأنشطة المدنية التي حرمت من خدمة موظفيها المكلفين / المجندين خلال فترة التحاقهم بالخدمة الوطنية، وتتعاظم هذه الكلفة بالطبع كلما زادت حصة شريحة التكنوقراط والفنيين وخريجي الجامعات في قائمة المكلفين / المجندين، لكن هذه الكلفة ليست دون مقابل، بل إنها أيضاً مدفوعة الثمن من جانبين، فهي إلى جانب المزايا الناشئة من إعادة تكييف وعي وسلوك المجندين نحو الأحسن فإن القطاع العسكري يستفيد من خبرات ومهارات هو بأمس الحاجة إليها ولا مجال للحصول عليها إلا من خلال برنامج الخدمة الوطنية.
درست عند كتابتي لأطروحة الماجستير تجارب دول متقدمة واكتشفت أن أغلب المتقاعدين من الخدمة العسكرية كالمهارات في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والعلوم الحياتية المختلفة.. إنما يشقون طريقهم بسهولة نحو مناصب مرموقة في المؤسسة المدنية على اختلاف تخصصاتها بفضل حاجة هذه المؤسسة إلى تخصصاتهم ونمط سلوكهم، باختصار القطاعان المدني والعسكري إنما يتبادلان المنافع بتوظيف مخرجات كل طرف بشكل واعٍ ومدروس.
ورغم أن التجربة كانت محل دراسة لسبع سنوات مضت كما نشر في الإعلام فإن من المحتمل أن تواجه كما في أي تجربة ناشئة أخرى بعض المشاكل ولذا فإن إخضاع التجربة الأولى للتحليل والتقييم ضروري من أجل إغنائها وتطويرها لتنفيذ برامج أفضل في المستقبل. والمطلوب هنا إجراء دراسة جدوى تقارن فيها المنافع المتحققة، في الأمن الوطني والدفاع، في وعي وسلوك الفرد، مقابل الكلفة المادية والكلفة الفرصية.. وليس لدي شك واحد أن برامج الخدمة الوطنية من هذا القبيل إنما ستعود بالخير العميم على الوطن والمواطن وستثبت الأيام صحة هذه النظرة.
وأن قرار دولة قطر في هذا المجال إنما كان قرارا صائبا وخطوة في الاتجاه الصحيح.