لا يمر يوم ولا حدث ولا مناسبة، إلا وتتأكد حقيقة الموقف الإسرائيلي الزائف من السلام والتعايش، وخاصة لدى اليمين الذي يقوده نتنياهو و ليبرمان وتسيفي ليفني والذي صبغ الشارع الإسرائيلي بصبغته القاتمة . الموقف المتمثل في شراء الوقت سنة بعد سنة، لإحباط الفلسطينيين وإفشالهم، وامتصاص إمكاناتهم في خضم خلافاتهم، والتهام أراضيهم بالقوة والمصادرة و بالخداع والتضليل. ومواقف نتنياهو العملية و معتقداته الفكرية الصهيونية و سياسته الإحلالية تبين كم هو بعيد عن الصدق حين يتحدث عن السلام . وهو يعمل على الالتزام بمبدأ جابوتنسكي و من بعده شارون والقائل “ أن التفاوض الجاد مع الفلسطينيين يبدأ فقط حين يصلون إلى حالة الاستسلام الكامل “ . ولذا تعمل إسرائيل الآن بكل إمكاناتها ومؤسساتها الظاهرة والخفية، والدعم الأميركي المغمض العينين، على سد المنافذ بكاملها على الفلسطينيين. فقطاع غزة في سجن كلي، لم يكن له نظير سوى معسكرات هتلر أيام الحكم النازي. والضفة الغربية تغتصب قطعة قطعة، والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية تحت ضغط المستوطنين يوماً بعد يوم، والاستيطان تزايد بنسبة 132% خلال فترة المفاوضات، والحكومة اليمينية تدفع المستوطنين بكل الإغراءات ليصل عددهم في الأراضي الفلسطينية إلى 600 ألف غاصب. وإذا كان قطاع غزة قد وضعه الانقسام الفلسطيني وإصرار حماس على الحكم في عزل مضاعف، فإن القيادة الإسرائيلية لا تريد “ للدولة الفلسطينية “ -التي اعترفت بها (138) دولة من دول العالم- أن تظهر للوجود قبل أن تستكمل ابتلاع الأراضي، لتصبح الدولة الفلسطينية القابلة للحياة شيئا مستحيلا . وفي كل مرة يحاول الفلسطينيون التحرك على الصعيد الدبلوماسي أو القانوني أو الشعبي بعيدا عن القوة والعنف، يقف نتنياهو ومن معه ليعلنوا رفضهم ومقاطعتهم واستنكارهم اللجوء للقانون الدولي، مكررين بذلك يا للسخرية والأسى موقف ألمانيا النازية التي كانت تقول:” إن يهود ألمانيا مسألة ألمانية داخلية ولا يحق لأحد أن يتدخل فيها”
ما الذي يزعج إسرائيل من انضمام دولة فلسطين المعترف بها دولياً إلى اتفاقيات دولية يفترض أن تنضم إليها جميع الدول؟ لماذا يثور نتنياهو ويرغي ويزبد و يهدد و يتوعد؟ ويعلن قائمة من العقوبات لأن فلسطين تقدمت إلى الانضمام إلى (15) اتفاقية من أصل (65) اتفاقية دولية ؟. وهي كلها اتفاقيات تأخذ الجانب الإنساني والقانوني والسلمي من الحياة الإنسانية و العلاقات الدولية ؟ ولماذا يقطع المفاوضات إذا تابعت دولة فلسطين حقها بالتعامل مع دول العالم على قدم المساواة ؟ الجواب أن هذه الاتفاقيات، وخاصة اتفاقيات جنيف والرابعة منها على وجه الخصوص، من شأنها أن تعرّي إسرائيل وتجعلها عرضة للانتقاد والمساءلة؛ لأنها تكشف عن حقيقتها البشعة كدولة احتلال لأراضي دولة أخرى . وسوف تبين تلك الاتفاقيات كيف تمنع إسرائيل الأطفال الفلسطينيين من حقهم في الحياة وحقهم في التعليم والغذاء والماء، وتسلبهم حقهم في الحفاظ على البيئة وحقهم في التنقل . وسيتبين للمنظمات الدولية أن إسرائيل كيان عنصري تعصبي رغم ادعائها الديمقراطية، تسير على خُطى النازي فتضع الفلسطينيين في معسكر اعتقال كبير وتمنع عنهم كل شيء . وهنا وبموجب الاتفاقيات الدولية التي تتهرب منها إسرائيل، يترتب عليها التوقف عن ذلك بل وتعويض المتضررين. فالاتفاقيات هذه لا تسمح بالاحتلال ولا بالاعتداء على المقدسات ولا طمس الثقافة، أو تشويه الجغرافيا أو مصادرة الممتلكات. وإسرائيل تريد أن تتهرب من هذه الجرائم كلها، إضافة إلى تهربها من تعهداتها المختلفة للسلطة الوطنية بما في ذلك الإفراج عن الدفعة الرابعة من المعتقلين .
فالمطلوب إذن، وقد شعر الأميركيون بالخزي؛ لأن حليفهم الأول إسرائيل قد خذلهم، وهم بذلك راضون، أن يبدأ الفلسطينيون والعرب جولات جديدة من التفاوض لأجل التفاوض، وتقديم مزيد من التنازلات.
هل هناك من فرص حقيقية للفلسطينيين للخروج من الطريق المسدود الذي تعمل إسرائيل على حشرهم فيها؟ الإجابة نعم، الفرص والإمكانات كثيرة. أولها إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإدراك حماس أنها تدمر الوحدة و تفسد الهدف الوطني بإصرارها على الحكم والسلطة في غزة. وثانيها أن تنظم السلطة نفسها كدولة يمكن للعالم أن يتعاطف و يتعامل معها. وثالثها، أنْ تدعم المجموعة العربية تَحَرّك فلسطين نحو الانضمام إلى جميع الاتفاقيات الدولية. وهذا الانضمام يتطلب التأييد و المساندة السياسية و التكتيكية و المالية . ورابعها أن يتم مساندة الدولة الفلسطينية في حملة المقاطعة و العقوبات BDS التي يتعاظم انتشارها وصداها في أوروبا و أنحاء كثيرة في العالم، وتأخذ الأقطار العربية على المستوى الشعبي مقاطعة كل ما هو إسرائيلي حتى تتوقف إسرائيل أن تكون دولة احتلال، و هذا لا يتعارض مع معاهدات السلام. وخامسها تعزيز النشاط على المستوى القانوني بشكل مكثف سواء في المحاكم الدولية أو المنظمات الأممية أو منظمات المجتمع المدني. وسادسها تنشيط البرلمانيين العرب للتواصل مع نظرائهم في أوروبا وأمريكا وروسيا والهند و أمريكا اللاتينية وغيرها، لكشف الحقيقة الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي والإنساني.
إن مبدأ جابوتنسكي الذي يتسلح به اليمين الإسرائيلي، وتلتزم به وتسوقه حكومة نتنياهو، يجب أن ينتهي، وأن تدرك إسرائيل أن الأوهام التوسعية لقادتها السياسيين تدفع بها إلى مصير مجهول . فالعالم سريع التغير، وقوة الشعوب لا حدود ولا ضوابط لها. و بالرغم من موازين القوى، فإن المستقبل الآمن لأي شعب لا يصنعه العدوان أو الاحتلال أو العنصرية أبداً