اتّسم الشعب الفلسطيني عبر مراحله التاريخية المختلفة باعتزازه وباعتداده بالنفس، وبالثقة الكبيرة ما بين أفراده في كلّ خطوة يخطوها نحو تحقيق حلمه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، ولطالما ترافقت وانسجمت هذه المشاعر الوحدوية مع مسيرة نضال الشعب الفلسطيني وقضيته عبر أزمنة عديدة بل خاضت أزمات كبيرة، وتجاوزتها وبقيت موحدة رغم اختلافاتها، وتشتتها في بقاع الأرض، واستطاع هذا الشعب، رغم نكباته، أن يحقق أكبر انجاز في تاريخه الحديث ببناء منظمة التحرير الفلسطينية حاضنة نضاله الوطني ومُشَكلة للهوية الجمعية له.
ودون تبرئة الاحتلال، فإنه وفي الآونة الأخيرة بدا من الملاحظ أن هنالك تراجعاً أو تذبذباً في ثقتنا بأنفسنا وبالآخر المختلف داخل المجتمع/الشعب الواحد، وبرزت كنتيجة مباشرة لهذا التحوّل بعض الممارسات السلبية، وإن كانت محدودة، ولا تمتّ بصلة لثقافة الشعب الفلسطيني، وهي بعيدة عن عادات هذا الشعب وتقاليده، والذي ظلّ متمسكاً بحقه في حرية الرأي والتعبير والاختيار، والحق في الاختلاف.
وإذا ما تفحّصنا بعمق أوضاعنا الحالية، لوجدنا مشاعر إحباط تنتشر بين كافة شرائح هذا الشعب، وتشكيك بالقدرات الذاتية، وتراجع في تقاليد كانت مقدّسة، مثل قضية الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر، والممارسة الديمقراطية وقبول الآخر المختلف، وغيرها من صفات لطالما تميّز بها الشعب الفلسطيني.
لقد برهنت ردات الفعل على العديد من القضايا، والتي كان آخرها الهجوم على شخصي حين قام عدد من المواقع الإخبارية بنشر كلام محرف ومجزوء من نص لمقال نشرته في أحد المواقع الإخبارية الإسرائيلية، وعكست هذه المواقف وردات الفعل، مدى أزمة الثقة بالنفس التي نعاني منها، بل إن فقداننا لثقتنا بأنفسنا بلغ درجة مسيئة تساوي بين من يجالس الاحتلال من أجل قضاء مصالحه، وبين من يحاججهم لإحقاق الحق في السياق الصحيح وتحت النور دون الانزلاق إلى التطبيع أو الانهزام والاستسلام، أو التنازل أو المقايضة على الثوابت الوطنية.
لا بدّ من محاسبة أنفسنا ومراجعة الموقف بكل تفاصيله، وعدم التشكيك في من يخالف الرأي أو الطريقة لفرد أو لمجموعة، ولا بدّ كذلك من التسلّح بدرجات أكبر من الثقة بالنفس وبالآخر المختلف، لا بدّ من البقاء متناغمين ومتناسقين، وأن نوزّع الأدوار والمهام فيما بيننا، وأن نفتح مجالاً للاجتهاد والعمل تحت الشمس وتحت الضوء بشفافية ومجاهرة من أجل القضية المركزية، لأن بين أيدينا قضية أهم، هي رأس القضايا، لذا علينا جميعاً مهما اختلفنا ومهما تعددت الاجتهادات والأساليب، أن نبقى على ثقة بأنفسنا لنتمكن من إنهاء الظلم، وإنهاء الإحباط والانقسام، وإنهاء الاحتلال، ونيل الحرية والاستقلال وفق ثوابتنا وحقوقنا المشروعة.
أزمة الثقة هذه ليست حديثة، فقد تجلّت بشكل واضح عندما شكّك البعض بالمفاوض الفلسطيني وبالقيادة الفلسطينية على خلفية ما سُمّي بتسريبات الجزيرة، وحملة التحريض التي تعرضت لها دائرة شؤون المفاوضات والقيادة الفلسطينية، هذه الحادثة أثبتت انعدام الثقة بالنفس، وعلى الرغم من اهتزاز الثقة، إلا أننا حققنا إنجازا تلو الآخر من إعلان الدولة إلى الاعتراف الأممي بدولة فلسطين كدولة بصفة مراقب، وإلى التوقيع على الانضمام إلى منظمات دولية، هذه الإنجازات الوطنية لم تتمّ لولا جهود القيادة لانتزاع جزء من حقوقنا، ولا يزال الدرب طويلاً، لكن إن استسلمنا للتخوين والتشكيك وفقدان الثقة بأنفسنا وبقياداتنا وبأحزابنا وحركاتنا وبشخصياتنا الوطنية، فإننا سننجر إلى منحدر أخطر سينتهي بإغلاق ملف القضية الفلسطينية، في الوقت الذي يجب أن نركّز فيه وحدتنا وجهودنا، لتبقى قضيتنا على رأس الأجندة الدولية وأن نكثف جهودنا في الضغط الدولي للحصول على كامل حقوقنا، مستندين في ذلك إلى وحدتنا، متسلحين بقرارات الشرعة الدولية.
ولربما تفاقمت أزمة الثقة بالنفس وبالآخر مع تنامي ظاهرة الانقسام وبروز ثقافة الإقصاء والتخوين ونفي الآخر المختلف، ما زاد من انتشار الإحباط وفقدان الأمل، وبالتالي فإنني أُجزِم بأن هذه الأزمة أصبحت تشكل ظاهرة بسب استفحال ثقافة الإقصاء، حتى أن انعدام الثقة أعاق إنجاز ملف إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة، وأضحى موضوع المصالحة موضوعاً لا يأخذه المواطن العادي على محمل الجد، وطال الانطباع بالفشل قيادات عدة، أقول هذا بكل أسى، ولكن هذه هي الحقيقة، والتي آمل أن تتغير وتتهيأ الظروف لكي ننهي الانقسام ونطوي هذه الصفحة السوداء من تاريخنا، بأسرع وقت ممكن لأن الوضع الفلسطيني غاية في الخطورة والتعقيد.
أزمة الثقة بالنفس تتمثل أيضاً وللأسف في نظرة الناس إلى المنتج الوطني، فما زال المنتج الوطني يُنظر إليه بعين من الريبة ويتصدّر المرتبة الثانية أمام المنتج الإسرائيلي والأجنبي، رغم المعاناة من الاحتلال، ورغم كل الدعوات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية ومنتجات المستوطنات (ما بقي الاحتلال) ودعم المُنتج الوطني، هذه المقاطعة التي نجحت بشكل لافت في الخارج وفي دول الغرب، لكنها لم تُثمِر إلى الآن على الصعيد الوطني.
كما تجلت هذه الأزمة أيضا، في المشادة التي حصلت خلال مؤتمر اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها الذي عقد قبل أقل من عام في بيت لحم، وما نتج عنها من خلاف، ناهيك عن الضوضاء والتشتّت الذي أساء إلى الجميع، فظهر المسؤول والناشط كالأعداء والخصوم، وارتطمت المشاعر بعناصر عدم الثقة، ووصل الأمر إلى الاعتداء على ناشط وطرد وزير، هل هذا ما نريده؟ هل هذا هو ما نحن مقبلون عليه؟ هل هذه هي الطريقة والطريق التي اخترناها لأنفسنا من أجل نيلنا لحقوقنا؟ دعونا نتدارك الأمور، ونعي مخاطر هذه الأزمة وهذه التجاذبات، فكلنا أبناء هذا الوطن، وكلنا وطنيين، وكلنا غيورين، وكلنا على حق، ولا داعي لأن نجلد أنفسنا بأكثر من هذا.
لا يُعقل أن ننجز مشروعنا الوطني، ونقارع الاحتلال، ونبني الدولة ومؤسساتها ومقوماتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ونحن ننظر بعين الريبة إلى أنفسنا وإلى كل شيء حولنا، لا يجوز أن نسمح بأن يدخل الشك إلى أنفسنا، وأن نسمح بالتشكيك ببعضنا البعض.
لقد بات الوضع مخجلاً بعض الشيء، أليس من الأجدر بنا أن نعيدَ بناء ثقتنا بأنفسنا، وأن نعود إلى عادات وتقاليد الشعب الأصيلة، ونعزّز تلاحمنا، وأن نتجادل ونتناقش بهدوء بعيداً عن التشكيك والتخوين والإقصاء، وأن نُبدع ونجتهد ضمن المحاذير والثوابت المتفق عليها؟ أليس شعبنا على درجة من الوعي والنضوج والمسؤولية؟ فلماذا الانفعالية والتشكيك والتخوين والجلد المدمر للذات؟ لنستعيد ثقتنا بأنفسنا، ولنعيد وحدتنا وقوّتنا، حتى نفرض احترامنا على العالم أجمع، وحتى لا نخسر الزخم الذي كسبناه من مناصرة وتأييد معظم شعوب وحكومات العالم، وحتى نبني على الإنجازات ونراكم عليها، ونواصل ممارسة حقنا في الاستقلال وبناء دولتنا، وحقنا في تقرير المصير، والذي لا يستطيع أيٌّ كان التفريط به.
شكلت القيادة الفلسطينية، في اجتماعها الأخير، وفدا للاجتماع مع حركة حماس من أجل اتخاذ خطوات عملية لإنهاء الانقسام، وأعتقد بأن طبيعة هذا الوفد يؤكد على جدية التوجه لإنهاء هذا الملف، لأنه مُشَكّل من أطياف سياسية وفكرية متعددة ومتنوعة، وحريصة كما الآخرين على إعادة الاعتبار للمشروع الوطني التحرري، وهذا يدفعني إلى مخاطبة الأخوة في حركة حماس، التي هي جزء أصيل من النسيج الاجتماعي والسياسي والنضالي الفلسطيني، إلى التجاوب مع هذه الخطوة، ولنذهب جميعا نحو الإعلان عن إنهاء الانقسام وتطبيق ما تم الاتفاق عليه في القاهرة والدوحة، ونقل رسالة فلسطينية خالصة إلى العالم، وبخاصة إلى دولة الاحتلال، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأننا نريد دولتنا على حدود الرابع من حزيران للعام 1967، بعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين وفق القرار رقم 194.
وهذه الخطوة لا تقودنا فقط إلى إعادة بناء ثقتنا بأنفسنا وبداية للدخول والقبول في شراكة سياسية حقيقية، بل هي أيضا رسالة وفاء إلى أرواح شهدائنا الأبرار وعلى رأسهم شهيدنا الخالد ياسر عرفات، ورسالة أيضا إلى أسرانا وجرحانا ومعوقينا بأننا سنواصل دربنا، ولن نخون عهدنا، ولن نتراخى عن واجبنا نحو هذا الشعب المعطاء الذي قدم الغالي والنفيس في سبيل حريته وحقه في تقرير مصيره.
أقول هذا بكل شفافية وتجرد فقد بلغت من العمر ثمانون عاما وأملي الوحيد قبل رحلتي الأبدية أن أرى فلسطين حرة ديمقراطية تتسع لجميع مواطنيها، كما كان وسيبقى حلم حفيدي منيب، الذي أقعدته رصاصات الاحتلال عن الحركة إثناء مشاركته في مسيرة العودة على الحدود اللبنانية الفلسطينية في ذكرى النكبة عام 2011، أن يعود إلى فلسطين، فليس لدينا وطن آخر غيرها فهي تاريخنا وجغرافيتنا وحاضرنا ومستقبلنا.