كلما كان يستشكل عليّ فهم مغزى المراوغات الإسرائيلية، على مدار عقدين من عمر المفاوضات المؤسسة على اتفاقية أوسلو العام 1993، وتنغلق في ذهني الدروب المؤدية إلى إجراء مقاربة سياسية موضوعية لمكونات هذه العقلية المسكونة بروح الابتزاز والاستعلاء والمساومة اللانهائية، كانت تعود بي الذاكرة إلى حكاية تاجر البندقية (فينيسيا) التي كتبها شاعر الإنجليزية الأكبر وليام شكسبير، في القرن السادس عشر؛ لعلها تعيد فك وتركيب تلك الألغاز التفاوضية المعقدة، وتساعد على اكتناه تجلياتها بالاستناد إلى خلفيتها الثقافية.
وقد حضرت هذه الحكاية المسرحية المثيرة للخواطر إلى الذاكرة بقوة، مؤخراً، بين يدي المماطلة الإسرائيلية التقليدية، المتعلقة هذه المرة بالإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفسطينيين القدامى، المبرم في اتفاق واضح رعته الإدارة الأميركية عشية بدء جولة مفاوضات جديدة، ظلت تلفظ أنفاسها وتتعثر على طول الطريق منذ انطلاقها قبل نحو ثمانية أشهر؛ إذ لم أجد لديّ أداة مناسبة لسبر غور هذا الموقف الابتزازي الفج، إلا بالعودة إلى فحوى تلك الحكاية المليئة بالدلالات المثيرة، لعلها تميط جانباً من اللثام عن وجه “شيلوك” المستنسخ بشحمه ولحمه، وكأنه (حاشا لله) حي لا يموت أبداً.
وأحسب أن من المفيد إيجاز نص مسرحية تاجر البندقية، التي تنعقد حبكتها حول بشاعة أخلاقيات تاجر يهودي مرابٍ، أقرض مالاً لتاجر إيطالي وقع في عوز مفاجئ، بشرط مكتوب وموثق لدى قاضي المدينة، قوامه أن على المقترض أن يفي بدفع المبلغ في أجل محدود، وإلا فإن من حق شيلوك المرابي أن يقتطع رطلاً من لحم المدين. وهو ما جرى فصولاً بعد ذلك في إطار مشاهد مسرحية مثيرة، أجاد فيها شكسبير سبر غور نفسية هذا المرابي الجشع، الذي كان يعكس بمساومته الفظة تلك، صورة بانورامية واسعة لذهنية مجتمع المرابين اليهود، وانتهازيتهم المقيتة في تلك الحقبة الزمنية الغابرة.
ومع أن مسرحية تاجر البندقية تعتبر لدى كثير من النقاد المسرحية الأعظم نصاً، والأبلغ عظمة، حتى من مسرحيات شكسبير الأشهر، مثل مكبث وعطيل وروميو وجولييت، إلا أنها بقيت العمل الأقل تداولاً، والأكثر غياباً عن خشبة المسرح، حتى لا نقول إنها المسرحية التي لم تعد تُذكر، خصوصاً في العصر الراهن. وذلك كله بفعل قوة نفوذ الجماعات اليهودية، وشدة سطوتها الإعلامية على المجتمعات الغربية، التي راحت تمالئ أصحاب المال والأعمال والإعلام، حتى وإن أدى ذلك إلى إسقاط “تاجر البندقية” من عيون التراث الثقافي الأوروبي، وجعل هذا العمل الإبداعي نسياً منسيا.
ولعل من حسن حظ شكسبير، الذي اعتبره بعض دارسي الأدب أعظم شاعر وكاتب مسرحي في التاريخ، أنه لم يعاصر ما عُرف بعد نحو خمسة قرون على وفاته بظاهرة “معاداة السامية”، وإلا لتمّ وصفه ككاره لليهود، وجرت محاكمته ومصادرة روائعه، تماماً على نحو ما حدث لكل من انتقد سلوك أصحاب “الدم الأزرق” هؤلاء، وعارض سياسة إسرائيل العنصرية في وقت لاحق، وذلك قبل أن تبدأ صحوة أوروبية حديثة، أخذت تنمو مؤخراً وتتسع نطاقاً، لدى نخب أكاديمية وسياسية وثقافية، وجماعات حقوق إنسان وغيرها، استكثرت على نفسها استمرار غض البصر وإماتة الضمائر تجاه فظاظة آخر احتلال في زمن ما بعد نهاية الحقبة الاستعمارية.
خلاصة القول، وأياً تمخضت عنه حبائل المراوغة الإسرائيلية الراهنة فيما يتصل بالإفراج عن دفعة الأسرى الرابعة، وجرى معها تفسير هذا الأمر، سواء برده إلى علّة الضعف الفلسطيني العربي، أو بوصفه كمظهر من مظاهر الشعور بالاستعلاء العرقي، ناهيك عن الاستقواء والفجاجة الإسرائيلية؛ فإن من الصعب فهم هذا الموقف التساومي الكريه، بمعزل عن تلك الخصلة المتأصلة في عمق أعماق عقلية تفاوضية مستمدة من تراث زاخر بالشواهد التاريخية، الدالة على استحكام إرث الماضي البعيد بـ”ميكانزمات” سياسة يومية راهنة، قد تشكل فيها “ثيمات” تاجر البندقية مفتاحاً كبيراً لفهم مكنونات الموقف الإسرائيلي الحالي من مسألة إطلاق دفعة الأسرى الرابعة.