عروبة الإخباري – بعيداً عن الأسلوبية الأكاديمية الصارمة، تحدث المخرج فيصل الزعبي في الجامعة الأردنية اول من امس حول علم الجمال وآفاق الإبداع، مسترسلاً في مفاصل محاضرته ومحاورها بشكلٍ مرتجلٍ، ولكن منظمٍ ودقيقٍ وعميق.
الزعبي الذي نظّمت لقاءه مع الطلبة وحدة الإعلام والعلاقات العامة والثقافية في الجامعة الأردنية، استهل محاضرته التي عرّف علم الجمال خلالها أنه إنشاء الوعي، بالاعتراض على توصيف مُقَدِّمَهُ له الشاعر نواف رضوان بالمخرج الكبير، رائياً أنه لا يوجد مخرج كبير وآخر صغير، لأن منتَج المخرج وسوية ما يقدمه هو الذي يمكن النظر له بالعمل الكبير الفذ أو غير ذلك. في سياق الاستهلال أيضاً كشف الزعبي عن دراسته الطب ووصوله سنته الأخيرة فيه قبل أن يترك دراسته للطب مختاراً دراسة السينما في الاتحاد السوفيتي السابق، كما كشف عن وصوله المرحلة النهائية من الحصول على درجة الدكتوراه في الفن السينمائي، قبل أن يتعذر حصوله على تلك الدرجة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وضرورة دفعه مبلغ 800 دينار للحصول على الشهادة وهو ما لم يكن بحوزته حينها، فآثر العودة للأردن دون درجة ولكن برغبة عارمة أن يحاول التعبير عن أفكاره الجمالية والاستفادة من المحتوى الجمالي الذي تعلمه في الجامعة وفي الحياة. الزعبي الذي أكد لحضور محاضرته من طلبة وإعلاميين وأساتذة جامعة وضيوف أنه لن يتحدث بمنهجية أكاديمية، رأى في سياق متصل أن الوظيفة الرئيسية هي إعداد إنسان المستقبل. وأشار إلى خلبية مفردة الجمال وخداعيتها، «البسيطة المتعرجة، المحتوية على لعبة لا نهائية لا مكان لنا فيها إلا من خلال اللعبة الجمالية نفسها». الزعبي يقول هنا: «صرنا في العصر الحديث أكثر إشكالية مع الجمال وأكثر وعياً له، فلاحظنا القبح وعاينناه وشخصناه».
هذا ما ذهب إليه، وهذا ما دفعه لأن يقول إن أيام زمان لم تكن أجمل، ولا أسهل، ولا أكثر رومانسية، بل على العكس من ذلك، فإن حياتنا المعاصرة، بحسب الزعبي صاحب عديد الأعمال الدرامية والوثائقية التلفزيونية والسينمائية، هي الأكثر جمالاً ورفاهً ورومانسية وأقل قبحاً وقساوة.
في سياق متصل، أقام الزعبي مخرج مسلسل «المتنبي» مقارنة بين طرائق التدريس الأجنبية (الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال) والعربية المحلية، فأوضح أنه ليس لديهم ما يعرف بالنقد بل الرؤية، وهم لا يطلقون لقب ناقد على من يتناول المنتج الإبداعي (أي منتج إبداعي) بالتحليل والقراءة والتقاطع، بل يطلقون عليه لقب رؤيوي، ويضعون ما يقدمه في إطار التثاقف والمثاقفة، تبادل الوعي.
الجامعات، يقول الزعبي، تشكّلت نتيجة وعي ثقافي اجتماعي، ولكنها عندما أصبحت مؤسسات قائمة وممكنة، بدأت هي التي تؤسس لوعي ثقافي اجتماعي، هي إذاً، كما يرى المحاضر، متوالية التضاد والبناء، في ذروة تجلياتها الجدلية المحتدمة. الكاتب الروسي تشيخوف على سبيل المثال طبيب، يبيّن الزعبي صاحب السلسلة الوثائقية المهمة «سيرة مبدع»، لكنه عندما بدأ يكتب، أصبح ضيفاً دائماً على كليتيّ الآداب والفنون.
في السياق أيضاً عدد الزعبي عناصر ضرورية لتحقق الجمال واستواء علمه، منها: اللحظة الجمالية، الفعل الجمالي والتلقي الجمالي. وهي عناصر ستبقى، برأيه، مفككة، إلا عند إدراكنا لضرورتها. المخرج الأوروبي يؤطر الجمال، يقول الزعبي، ويتحدث، ويتنقل من خصلة من خصال الجمال وعلمه وتعريفه وتعاريجه إلى خصلة أخرى، لكن المخرج العربي يعمل على تنحية القبح، هذا ما يميزهم عنا، برأي الزعبي، ويمنحهم الأفضلية والأسبقية.
على صعيد عنصر التلقي، يقول الزعبي إن إدراك اللحظة الجمالية هي التي تجعل مني/ منا معزولاً/ معزولين». ويقول أيضاً، وأيضاً: «أحياناً يصبح الجدار أذكى من الجمهور»، ويعرّف اللحظة الجمالية أنها «اقتناص عجيبٍ وغريب إن لم يكن في محتوى الوعي». الزعبي تطرق، إلى ذلك، لمفهوم المثقف العضوي الشامل، ذاهباً إلى أنه من غير الممكن أن يصبح القاص قاصاً إن لم يكن يعرف موسيقى وتشكيل ولديه، إجمالاً، إلمامٌ، بالحقول الإبداعية الأخرى. وكذا الأمر مع الشاعر والموسيقي الذي ينبغي أن يكون على دراية بالشعر وأسراره والرسم والنحت وما إلى ذلك، وهكذا الأمر دواليك.
الفلاح لا يزرع روح النعنع، بل يزرع النعنع نفسه، وروحه موجودة في ذاتها، يقول الزعبي. والشاعر لا يكتب الشعر بل يكتب القصائد التي إما أن تتحلى بروح الشعر الذي يعرفه أرسطو أنه «شرط الفن». يقول الزعبي «إنتاج الجمال هو وعي بحد ذاته» دون أن ينسى الإشارة لضرورة توفر عدد من الشروط والضرورات لحظة تحقق هذا الإنتاج، بما في ذلك المصادفة حتى. إلى أن يصل إلى أن «الجمال هو روح الفن، مثلما الشعر هو شرطه».
زمان، يقول الزعبي، كان الحرفي والصانع يصر على تمثل الجمال حتى عندما يصنع أداة ما، كأساً أو مجرفة أو إبريقاً أو ما إلى ذلك، ليخلص إلى أن الجمال كان، تاريخياً، شرط الأداة وليس العكس.
الزعبي ختم محاضرته التلقائية الحيوية السلسة بتعداد مساقات ومعارف بات طلبة اليوم في أمس الحاجة لها بعد أن تراجع الاهتمام بها من قبل إدارات الجامعات المحلية وربما العربية حتى، وهي: تاريخ العلم، والثورة المعيارية، الفلسفة التي تحولت برأيه إلى شتيمة «إنت واحد متفلسف» وأخيراً تاريخ الثقافة. وهي معارف قد تسهم، بحسب الزعبي، بتطوير مداركنا الجمالية وتعزيز سلطة العلم والجمال وهارمونيته وتناغمه مع باقي مفردات تشكلنا، وصولاً إلى وعي مستقل منتجٍ مبدعٍ مبتكرٍ، وإلى كيانٍ حرٍ ينتمي إلى الفلسفة والفكر والثقافة.