أمطرت حركة الجهاد الاسلامي غلاف المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، بعشرات الصواريخ في ليلة من ليالي الأسبوع الماضي، رداً على اغتيال الطائرات الحربية الإسرائيلية لثلاثة من كوادر الحركة، التي تُعد التنظيم الثاني من حيث القوة العسكرية في القطاع، الذي تقبض عليه حركة حماس منفردة، إن لم نقل تختطفه منذ سبع سنوات.
كان لافتاً اختيار “الجهاد الاسلامي” لعمليتها المحسوبة اسم “كسر الصمت” وليس كسر الحصار مثلاً؛ إذ يمثل الحصار حالة تقوم عليها وتفرضها إسرائيل جهاراً نهاراً، فيما يشكّل الصمت الذي حاولت دفعة الصواريخ كسره حالة مغايرة وملتبسة، ظل فيها الفاعل مضمراً، لم يشأ “الجهاد” تعريفه بالألف واللام قصداً.
وإلى أن تنتهي الظروف التي تملأ فم “الجهاد الاسلامي” بالماء، وتمنعه تسمية الولد باسم أبيه، نظن وليس كل الظن إثم، أن هذه الصواريخ انطوت على رسالتين رئيستين. خاطبت الأولى منها إسرائيل، محذرة من مغبة العودة إلى سياسة الاغتيالات في غزة؛ بينما خاطبت الثانية حركة حماس التي تفرض حالة الصمت السائدة في القطاع المحاصر، أي تلك الحالة التي أراد “الجهاد” كسرها بالقوة.
إذ منذ اتفاق التهدئة المعيب، الذي رعاه الرئيس المصري المعزول بنفسه العام 2012، واشتمل على بند وصف المقاومة بالأعمال العدائية، بدت حركة الجهاد الإسلامي على هامش المشهد الذي فازت به “حماس” بالغنم السياسي كله، وذلك حين زار خالد مشعل قطاع غزة وقضى فيه ثلاثة أيام بتصريح إسرائيلي مسبق، فيما حظر على أمين عام حركة الجهاد رمضان عبدالله شلح، مرافقة الرجل الذي وقّع وإياه اتفاق التهدئة في القاهرة.
ومع أن “حماس” كانت ربة البيت في قطاع غزة، منذ انقلابها الدموي قبل سبع سنوات، إلا أن اتفاق التهدئة المشار إليه، جعل الحركة القابضة على مقاليد القطاع بالحديد والنار، العنوان السياسي الأوحد، بل وصاحبة الكلمة الوحيدة في كل ما يتصل بشؤون غزة وشجونها، بما في ذلك الحفاظ على سلطة الأمر الواقع بكل ثمن، وبما في ذلك تخوين مطلقي الصواريخ، الأمر الذي همّش دور حركة الجهاد، ودفع بها إلى ظلال المشهد كقوة نافلة.
ويبدو أن “الجهاد الإسلامي” التي لم تغادر تحالفاتها التقليدية السابقة، أي على العكس من منافستها على الحضن الإيراني، قد ضاقت ذرعاً بالسلوك المهادن من جانب “حماس”، وهالها استخذاؤها أمام تواصل العدوان الإسرائيلي، وسط ما يشبه حالة الإذعان والتسليم، خصوصاً بعد أن انتشر أعضاء من كتائب القسام بجانب خطوط وقف إطلاق النار، وهم يحملون العصي والهراوات، على مرأى العين من قوات الاحتلال، للحفاظ على التهدئة التي تتشبث بها “حماس”، وتجد المبررات الفقهية لها.
وهكذا جاء العدوان الإسرائيلي الآثم على حركة الجهاد الإسلامي، مؤخراً، ليقدم فرصة مواتية لكسر حالة الصمت المملاة على هذه الحركة، التي كانت تعد نفسها، وتتحين الذرائع والمبررات غير المشكوك بها، لإطلاق عشرات الصواريخ دفعة واحدة، وكأنها بذلك كانت تطلق صرخة مدوية ضد حالة الصمت التي ظلت قائمة، رغم الاعتداءات الإسرائيلية الموجهة لغير حركة حماس القابضة بأسنانها على اتفاق التهدئة.
يمكن الافتراض أن “الجهاد” قامت بهذا التحدي المزدوج، المتفاوت في مقاصده، ضد كل من إسرائيل و”حماس”، بعد أن امتلكت الأسباب الوجيهة الموجبة للرد على العدوان الصارخ من جهة؛ وتوصلت إلى قناعة مفادها أن هيمنة القائمين على حالة الصمت الراهنة قد ضعفت، إثر تداعيات ما جرى في مصر من جهة ثانية، الأمر الذي أسقط الحرج ووسع هامش المناورة، وأتاح لسرايا القدس تصدر المشهد الغزي بكفاءة، وفوق ذلك تدشين قناة اتصال مع القاهرة، في موازاة القناة الحمساوية المعلقة.
إزاء ذلك كله، فإننا نعتقد أن دوي الصواريخ التي لم تصب أي مستوطن بجرح طفيف، تماما كما هي الغارات الإسرائيلية، كان يتحدى “حماس” التي بدت ممتعضة من رشاقة “الجهاد” وجرأته، وفوق ذلك من قناة اتصاله الجديدة مع “الانقلابيين” في القاهرة، أكثر من كونه يخاطب إسرائيل، الحريصة على إدامة حكم انقلابي معزول ومأزوم، بات اليوم محظورا في مصر وفي غيرها.