لا تريد روسيا أن تستعيد تجربة الحرب الباردة مع الغرب عموماً. لكن تداعيات الأزمة الأوكرانية المستمرة وضعت العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة وبينها وبين أوروبا في إطار جديد مختلف عن المرحلة السابقة. ولم يبالغ الذين وصفوا الأزمة بأنها الأولى من نوعها منذ سقوط جدار برلين. لن تكون العلاقات كما كانت في السابق مهما قيل عن غياب الظروف والمعطيات التي يمكن أن تمهد لنشوء حرب باردة جديدة. وأبعد من الصراع القائم بين واشنطن وموسكو، تتفاوت المواقف السياسية بين الشركاء في حلف الأطلسي حيال الرد على التحديات التي رفعها الرئيس فلاديمير بوتين في وجه أوروبا.
تدفع الأزمة الأوكرانية جميع الأطراف إلى إعادة النظر في خريطة العلاقات الدولية والإقليمية. وتترك شروخاً تولدها اصطفافات مختلفة عن تلك التي سادت في العقود الثلاثة الماضية. لا أحد بالطبع يريد حرباً واسعة. لا مجال لمثل هذه المواجهة ولا قدرة لأي طرف على خوض خيارات من هذا النوع. لكن ملفات كثيرة عالقة بين الكبار قد تزداد تعقيداً واستعصاء. وربما شهدت ساحات مزيداً من الصراع في ضوء إعادة النظر في كثير من الحسابات المحلية والإقليمية. وإذا كانت أوروبا ساحة المواجهة الأولى في زمن المعسكرين فإنها لن تكون كذلك في هذه المرحلة نظراً إلى تشابك المصالح وتبادلها بين دول الاتحاد وروسيا، ولا مصلحة لأي طرف في المجازفة في هدم ما قام في العقدين الأخيرين. من هنا التباين بين دول الاتحاد والولايات المتحدة في التعامل مع الأزمة الناشبة.
ولن تكون المنطقة العربية بمنأى عن تداعيات المواجهة بين روسيا والغرب عموماً. بل ستزيد أوضاعها تعقيداً. كأن ما خلفه ويخلفه «الربيع العربي» من تحولات وتشظيات تعوق رسم الصورة المقبلة للنظام العربي لم يكن كافياً، حتى جاءت الأزمة الأوكرانية لتلقي بظلها على كثير من أزمات المنطقة وصراعاتها المعلنة والخفية فتضيف إليها حسابات واعتبارات يفرضها التباعد بين أميركا وروسيا. إسرائيل ستتنفس الصعداء بالتأكيد بعد انشغال الإدارة الأميركية بالصراع بين كييف وموسكو وترتاح من الضغوط التي كان يمارسها وزير الخارجية جون كيري لدفعها إلى إبرام اتفاق مع السلطة الفلسطينية. وربما افترقت حسابات إيران عن حسابات روسيا في حوارها القائم مع واشنطن وفي المحادثات المتعلقة بملفها النووي، لكنها ستفيد في تعزيز مواقعها بالاستناد إلى سياسة الكرملين الذي تحتاج واشنطن إلى تعاونه في تسوية هذا الملف، إضافة إلى ملف انسحاب القوات الأميركية والأطلسية من أفغانستان. وقد تفيد أكثر في الاتكاء على الموقف الروسي من الأزمة السورية. وربما تضاعفت متاعب حكومة رجب طيب أردوغان، إذ لا يمكن تركيا أن تنأى بنفسها عما يجري في شبه جزيرة القرم التي كانت لها فيها جولات من الحروب على مر التاريخ الوسيط والحديث.
لا جدال في أن الأزمة السورية ستكون الأكثر تأثراً بتداعيات الصراع الدائر حول أوكرانيا والذي وجه ضربة قاصمة إلى التفاهم الأميركي – الروسي. وثمة من يربط بين إثارة الصراع في شرق أوروبا بموقف موسكو التي اتهمتها واشنطن علناً بأنها تتحمل المسؤولية عن فشل مؤتمر «جنيف 2». فضلاً عن الاتهامات التي تساق لها بدعم النظام في دمشق ومده بكل أسباب البقاء، منذ اندلاع القتال في هذا البلد قبل نحو ثلاث سنوات. وإذا كان الصراع الروسي الغربي لا يكفي لتعقيد التسوية بين دمشق وخصومها، فإن التطورات التي تشهدها الساحة العربية تساهم في إضفاء مزيد من التعقيد الذي ينذر برفع وتيرة المواجهات وإطالة أمدها وأمد النظام الذي بدأ الاستعداد لانتخابات الرئاسة هذا الصيف للتجديد لنفسه.
توحي الاجتماعات التي يعقدها «الائتلاف الوطني» لإعادة هيكلة المجلس العسكري، وعودة الذين خرجوا من حضن الائتلاف عشية موافقته على خوض تجربة المفاوضات مع النظام في جنيف، بأن المعارضة تمهد لطور جديد من التفاهم ولملمة الصفوف لوقف التقدم الذي يحققه النظام على الأرض واقترابه من الحسم في القلمون. ومن أجل خوض معركة حاسمة في جنوب سورية. لكن ما تشي به التطورات الأخيرة ربما دفعت إلى مزيد من الصراع داخل صفوفه. فالعائدون تلقوا ويتلقون دعماً واضحاً من دولة قطر. وكانوا خاضوا معركة رئاسة الائتلاف وبعض هيئاته، لكنهم لم يوفقوا. وليس ما يدفع إلى تفاؤل كبير بإمكان الانسجام التام بينهم وبين الكتل الأخرى في هذا الجسم المعارض، خصوصاً أن كتلة وازنة تتلقى دعماً واضحاً من المملكة العربية السعودية. ولا حاجة إلى التذكير بالقرار الأخير الذي اتخذته الرياض وأبوظبي والمنامة بسحب سفرائها من الدوحة. ولا حاجة إلى التذكير أيضاً بأن في صفوف المعارضة كتلة وازنة من «الإخوان المسلمين» الذين شملتهم اللائحة السعودية للحركات والتنظيمات الإرهابية. وهذا عامل تعقيد إضافي في إدارة العلاقات داخل هيئات المعارضة بذراعيها السياسية والعسكرية.
ولا يمكن تجاهل دور تركيا التي وفرت ولا تزال القاعدة الخلفية لتحرك معظم أطياف المعارضة. ولا يخفى هنا ما يسود العلاقة بين أنقرة وعدد من العواصم العربية، من القاهرة إلى الرياض وأبوظبي. لقد عولت دول عربية عدة، في حمأة الصراع مع الجمهورية الإسلامية، على ثقل تركيا وموقعها وإمكان تعويضها موازين القوى التي كسرتها التحولات في النظام العربي، منذ سقوط العراق في الدائرة الإيرانية إلى الأحداث والأزمات التي لا تزال تعصف بليبيا واليمن وسورية. لكن مثل هذه الآمال لم يعمر طويلاً. ترددت أنقرة حيال ما يجري على حدودها الجنوبية والتزمت الموقف الأميركي، على رغم ما تعرضت له من استفزازات ومحاولات لجرها إلى الانخراط الميداني في الحرب السورية. غلّبت حساباتها الداخلية على الاعتبارات الأخرى. وما قام بينها وبين بغداد لم يقعد بعد. ثم جاء إسقاط نظام «الإخوان» في مصر وموقفها من الحكم الانتقالي الجديد في القاهرة ليعيدا معظم العلاقات التركية – العربية إلى سابق عهدها من الفتور، بل التصادم مع دول خليجية أخذت على عاتقها دعم التحول الجاري في مصر. وهي لن تكون بالتأكيد راضية على «اللائحة السعودية» الأخيرة!
في ظل هذا النزاع بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا من جهة أخرى، وفي ظل الخلافات المتجددة في صفوف «أصدقاء سورية» من العرب وانقساماتهم المتفاقمة، وفي ظل انشغال مصر بصراعها مع «الإخوان»، وأزمتها الاقتصادية والاجتماعية وعجزها تالياً عن القيام بدورها الطليعي التاريخي، كيف يمكن تصحيح موازين القوى في المنطقة لفرض التسوية المطلوبة على دمشق؟ علماً أن القاهرة لم تعلن موقفاً مناهضاً للمعارضة إلا أنها لم تعلن أيضاً موقفاً يثير النظام السوري. هذا من دون الحديث عما يخلفه صراعها المفتوح مع الإسلام السياسي الذي تخوضه منذ «ثورة يونيو» على موقفها من الحركات الإسلامية التي تقاتل نظام الرئيس بشار الأسد!
مآل الأزمة الأوكرانية سيترك آثاراً لا يستهان بها على مآل الأحداث في سورية. قد لا يكون التفاهم بين أميركا وروسيا على تدمير الترسانة الكيماوية في هذا البلد ضحية النزاع في شرق أوروبا. ثمة عوامل فرضت مثل هذا التفاهم الثنائي. بل مصالح مشتركة لعل في رأسها الخوف من سقوط جزء من هذا السلاح بأيدي جماعات جهادية. وهو ما لا تريده الدولتان الكبيرتان. وهناك أمن إسرائيل الذي لا يقل الحرص الروسي عليه من الحرص الأميركي. ألم تسق موسكو في تبرير تقدمها داخل أوكرانيا الدفاع عن الروس والأقليات و… اليهود في هذا البلد؟! لكن نظام الرئيس الأسد قد يلجأ إلى مزيد من المماطلة والتأخير في عملية تدمير هذه الترسانة، مستفيداً من النزاع الأميركي – الروسي. ويمكنه أن يبدد مخاوف حليفه على أمن هذه الترسانة ما دام يحقق مكاسب ميدانية في مواجهة المعارضة. ومستفيداً من الانقسامات التي تعصف بصفوف «أصدقاء» خصومه… إلا إذا حمل الرئيس باراك أوباما في جعبته إلى الرياض قريباً ما يعزز شوكة الفصائل المعتدلة، بعدما فرزت «اللائحة السعودية» الإرهابيين عن المعتدلين … وإذا بدلت وجهة المنازلة الكبرى المتوقعة في جنوب سورية موازين القوى على الأرض بما ينغص على الرئيس بوتين وليمته في القرم!