علينا في البداية أن نتفق على مسألة جوهرية قد أصبح الإجماع التحليلي بشأنها متفق عليه، وهي أن التحولات التي طرأت في عالمنا العربي منذ عام 2011 وحتى الآن، ليست عابرة ولا وقتية، وتأثيراتها عميقة جدا، وقد أدت وسوف تؤدي إلى تغييرات داخل الدولة الوطنية، مصر وتونس واليمن وسوريا، أنموذجا، وإلى مخاطر أمنية على المستويين الداخلي والخارجي بصورة غير تقليدية، مما قد تفتت الدولة الوطنية إلى دويلات طائفية ،، العراق، ولبنان أنموذجا ،، ومن الذكاء والحكمة التسليم بهذا التحليل من أجل إدارة المرحلة الراهنة ،، الانتقالية ،، حتى تسلم الدول ومجتمعاتها من تداعياتها اي تأثيراتها العميقة، إذن، لا تزال منطقتنا العربية تعيش مرحلتها التاريخية بنفس قوة عام 2011، وتغييراتها ينبغي أن ننظر إليها من خلال ثلاثة مستويات في آن واحد، هي المحلية والإقليمية والعالمية، لا يمكن أن نفصل أي منها عن إحداها أو عن بعضها، فهناك ارتدادات انتقالية للأحداث ونتائجها بين العواصم العربية، وماذا يعني ذلك؟
يعني أن الصراحة الكاملة عبر القراءة الموضوعية الدقيقة والشفافة الكاملة، ينبغي أن نمارسها بكل اطمئنان وثقة تجاه أي موقف أو سياسة أو توجه جديد قد نرى فيه قفزا فوق تلك القناعة، أو قد نرى فيه مؤشرا للرجوع للخلف، لأن الإصلاحات السياسية الكبيرة التي حدثت في بلادنا منذ عام 2011، قد جاءت لتعالج التحولات من منظورها الدائم وليس العابر أو المؤقت، من هنا بالذات، نتساءل هل تجاوزت بلادنا أزمة الباحثين عن عمل حتى نفكر بتغيير بوصلة التوظيف، ووقف مفاعل قوة الاحتواء التي مارستها بلادنا في مجالين من أهم المجالات حساسية وأهمية هما التعليم الجامعي والعمل، وهذان المجالان كانا من بين أهم الاكراهات التي فجرت أحداث عام 2011، فعلا، هل تجاوزنا أزمة الباحثين عن عمل حتى يتم التوجه نحو تقليص حجم التوظيف في القطاع الحكومي؟ قد نتفهم المبررات الاقتصادية التي تقف وراءه، لكن الدوافع السياسية لا تزال هي نفسها قائمة حتى الآن، وسيكون من الخطأ الاستراتيجي الكبير لو تم إيقاف أو المساس بقوة دفع عملية التوظيف الحالية في البلاد، لماذا؟ لأننا ببساطة لم نعالج أزمة الباحثين عن عمل بصورة نهائية أو بالصورة التي تجعلنا نتراجع لو قليلا عن التوظيف، وعلى سلطتنا السياسية التفكير في التكلفة المالية مقابل التكلفة السياسية لقضية الباحثين عن عمل في ضوء الرؤية التحليلية التي أوردناها في المقدمة، فقضية الباحثين عن عمل تحتل موقعا متقدما لا نبالغ إذا ما قلنا إنه في الثلاثة مراكز الأولى للقضايا الضاغطة جدا، والحساسة جدا، وبالتالي على الحكومة أن لا تصغي كثيرا لتحذيرات صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي المخيفة، فهما يركزان على البعد المالي أكثر من البعد الاجتماعي، بل إنهما من خلال تجاربهما في الدول النامية وراء كل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، فسياستهما ونصائحهما تتجه غالبا لسحق الطبقات الضعيفة، فهل كان لهما دور في أحداث عام 2011 التي شملت عالمنا العربي؟ فلماذا لم يقدما نصائحهما للدول العربية حتى لا تنفجر تلك الأحداث، ومن يتتبع سياساتهما في المنطقة سوف يلاحظ انها وراء انفجار الشباب، وبالتالي، لن يعنينا تحذيراتهما ولا نصائحهما، ولن تجعلنا ننسى أننا لا نزال في المرحلة الانتقالية التي تؤسس لمرحلة قادمة شاملة، ومن أهم مميزاتها التضامن مع الشباب، وأكثر قربا واقترابا منهم لتحقيق مصالحهم، فهم القوة التاريخية الجديدة التي تصنع الأحداث والتحولات العميقة في العالم العربي، فكيف نفكر لمجرد التفكير في التراجع عن مسيرة التوظيف؟ ونحن نطرح هذه القضية بهذه الحدية لدواعي المصلحة العليا بعد أن كشف لنا مصدر رسمي،، محلي،، رفيع نقلا عن احد الوزراء، عن توجه حكومي لوقف أو تراجع ـ ليس مهما التسميات ـ عن سياسة التوظيف في القطاعات الحكومية، ربما بسبب تكدس وتضخم عمليات التوظيف السابقة أو بسبب تحذيرات تلك المؤسستين العالميتين، لكن هل السبب في التوظيف نفسه أم في سياسة استيعاب الموظفين الجدد؟ وهل ينبغي أن نحصرهم في القطاعات الخدمية المكدسة بطبعها أم في الشركات العمومية التي يكتشف في بعضها حالات فساد عجيبة وغريبة؟ وحالات الفساد هي الأخطر على ثرواتنا وبلادنا، ورغم ذلك لم نسارع إلى فتح ملف الفساد حماية واسترجاعا لأموالنا المسروقة، لأن وراء ذلك هوامير كبيرة قد تؤثر على سياسات الصندوق والبنك الدوليين لمصالحها ومن وراءها، كما فعلت إحداها عندما استخدمت خبراء من تلك المؤسستين لإعداد دراسة ضد هيئة حماية المستهلك.
إذن، ستظل الحكومة المسئولة الأولى عن توظيف شبابنا للدواعي السالفة الذكر، ولأن ليس أمامها بديل آخر فعال يمكن الرهان عليه لإبطال مفاعيل التحولات العميقة التي يصنعها الشباب، فالقطاع الخاص لم يثبت لنا حتى الآن أنه الشريك الاستراتيجي الذي يعتمد عليه على الأقل في جانب التوظيف، ومن السخرية الحديث عن أرقام مجردة عن عدد الشباب الذين يتوظفون في القطاع الخاص، فهم يتوظفون اليوم ويغادرون الوظيفة غدا، لأن بيئة العمل في القطاع الخاص ورغم مساعي الحكومة الكبيرة لا تزال بعيدة عن عوامل الجذب والاستقرار، وإذا ما تراجعت الحكومة عن التوظيف في ظل واقع التوظيف في القطاع الخاص، فإننا سنرجع إلى المربع الأول الذي كشفت لنا ماهيته أحداث عام 2011، وهذا لا يعني أن نستمر في نفس مسار التوظيف وإنما دراسة السلبيات وتعزيز الايجابيات والتفكير في التوظيف في الشركات التابعة للحكومة التي تتطلب أولا تنظيفها، وإعادة النظر في إداراتها، ووقف توجه خصخصة العشرات منها خلال العام الحالي، فالشركات المراد خصخصتها، هي شركات ناجحة، ومربحة بطبعها، وينبغي أن لا نستعجل في توجه الخصخصة، فهذا معناه، رفع يد الدولة كثيرا في الاقتصاد في وقت بدأت في أوروبا الأصوات الشعبية والسياسية غير الاشتراكية تتزايد لعودة الدولة للاقتصاد حتى لو أدى ذلك إلى إعادة سياسة التأميم، والسبب ما يسمونه بالبطالة ونسميه في بلادنا بالباحثين عن عمل، ومهما يكن، وما ينبغي التأكيد عليه أخيرا، أن وقف أو الحد من سياسة التوظيف يعد توجها خارجا عن سياقات إدارة المرحلة الانتقالية، وتراجعا للوراء، ورجوعا عن معركة كسب القلوب، وعودة لتكدس أعداد الشباب الباحثين عن العمل، والخوف كل الخوف من انفجارهم لاحقا مما قد يسببون لنا تحولات عميقة غير مسبوقة ،، محليا،، والتفكير في التوجه يذكرنا بالنخب الوزارية القديمة التي غادرت مواقعها دون مساءلة ومحاسبة بعد أن أوجدت لنا قضية الباحثين عن عمل، وكدنا ندفع ثمنها سياسيا، وبالتالي، يجب أن لا يرى هذا التوجه النور، نصفه بالتوجه، لأنه لا يزال لم ينفذ، ويجب أن لا ينفذ، لأن ليس فيه أي مصلحة وطنية آنية، بل خطورة آنية ومستقبلية.