تونس صانعة للتاريخ العربي الحديث، وهي بقعة ضوء ساطعة في ظلام العرب الدامس المدلهم، فبعد إطلاقها لشرارة الثورة العربية الحديثة من منطقة سيدي بوزيد التي تسكنها غالبية من “الغلابا” المسحوقين والمطحونين بالفقر والبطالة وشظف العيش، ها هي اليوم تصنع دستورا توافقيا يرضى عنه غالبية الناس من جميع الأطياف الفكرية والسياسية والدينية، مما يجعل من الدستور الجديد “عقدا اجتماعيا” للمجتمع والدولة في عملية تعيد تونس إلى الواجهة كرائدة وصانعة للنموذج العربي.
هذا العقد الاجتماعي التوافقي يرضي البعض ويغضب آخرين، لأنه لا يلبي كل المطالب التي يريدها هذا الطرف أو ذاك، فالبعض يريد الدستور إسلاميا يحكم بالشريعة والبعض الآخر يريدونه علمانيا يفصل الدين عن الدولة، لكن الدنيا في النهاية هي موازين قوى وتوافقات وصفقات ومساومات وتنازلات.
نجح التونسيون في التوافق على قواسم مشتركة لدستور يمكن اعتباره “نموذجا للتراضي” بدل اللجوء إلى الحرب والعنف والنزاع المسلح وشق المجتمع وصناعة حالة من التفتيت التي قد تؤدي إلى الغرق في الفوضى، ومن هنا طبق التونسيون المثل القائل “لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم”.. أي لا تحكم الشريعة الإسلامية وفي المقابل لا تتعلمن الدولة، وهي صيغة تضع المجتمع التونسي في الوسط وتترك الحرية لكل فرد لاختيار توجهه، وهذا بالضبط ما نص عليه الفصل السادس من الدستور الجديد الذي قال: “الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. ويحجر التّكفير والتّحريض على العنف”.
وهي صيغة أرضت الإسلاميين والعلمانيين اللادينيين، ذهبت إلى حد اعتبار ما تم الاتفاق عليه “دستور ليبرالي”، خاصة مع تنازل الإسلاميين الذين يسيطرون على أغلب مقاعد المجلس التأسيسي عن اعتماد الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، وهذا يحسب لحركة النهضة الإسلامية ورئيسها الشيخ الدكتور راشد الغنوشي، الذي عمد إلى تقديم تنازلات من أجل حقن الدماء والخروج من عنق الزجاجة وإنهاء الأزمة السياسية والحد من حالة الاستقطاب في المجتمع ووقف الانحدار نحو العنف والفوضى، وهو يعتمد بذلك على ضمانة أن الشعب التونسي سينحاز دائما إلى عروبته وإسلامه ولن يتخلى عنهما مهما كانت الظروف.
الدستور الجديد نتيجة مرضية للثورة التونسية ويؤسس لـ”تونس دولة حرّة، مستقلّة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها.. دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون، تحمي كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي. ويحجر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن. ويضمن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر وحرية تكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات، وحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتدعم مكاسبها وتعمل على تطويرها، وتسعى إلى تحقيق التّناصف بين المرأة والرّجل في المجالس المنتخبة، وتتّخذ التّدابير الكفيلة بالقضاء على العنف ضدّ المرأة”.
يحق لتونس أن تحتفل ويحق لنسائها أن يزغردن ويحق للشعب التونسي الاحتفال بنهاية نظام بن علي، الذي خرج التونسيون إلى الشوارع وهم يهتفون “الشعب يريد إسقاط النظام”.. الآن فقط سقط النظام الدكتاتوري في تونس وسقطت جمهورية الجنرال، لتبدأ جمهورية الحرية التي صنعها الشعب التونسي العظيم.