مع تقدم المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية برعاية أمريكية نشطة وضاغطة يمثلها السيد جون كيري، ومع نجاح الشركاء في إبقاء العملية التفاوضية بعيدة عن الأضواء والإعلام، مع كل هذا، وفي إطار الواقع العربي و الفلسطيني المتعثر والمتبعثر، كثرت الافتراضات والتوقعات. بل وزادت التخوفات لدى البعض من حيث إمكانية وجود مؤامرة، أو فرض حلول تمس بالمصالح الوطنية الأردنية، أو تكون مخالفة للحدود الدنيا للحقوق الفلسطينية المتفق عليها، والتي مثلتها المبادرة العربية للسلام عام 2001. وهنا لابد من الإشارة إلى عدد من المسائل على النحو التالي:
أولاً: أن الإدارة الأمريكية تسعى بالدرجة الأولى إلى النجاح في وساطتها ووصول الفريقين إلى توقيع اتفاقية سلام، بغض النظر عن محتوى هذه الاتفاقية، طالما ترضى بها إسرائيل، وتضمن لها الأمن من المنظور الإسرائيلي الذي يسعى دائماً إلى جمع الأمن والاحتلال في رزمة واحدة.ويستعمل كيري كل وسائل الترهيب والترغيب المتاحة لدفع الجانب الفلسطيني على القبول بخطته التي تتماشى مع المطالبات الإسرائيلية إلى حد ملفت للنظر.
ثانياً: أن بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي الحاكم، لم يصلوا أبداً إلى قناعة راسخة صادقة بالوصول إلى السلام وإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ولا يزال اليمين ، وهو المسيطر على التوجهات السياسية ،مقتنعاً بأن الوضع العربي والأمريكي والفلسطيني السائد، هو الأفضل للاستمرار في التوسع والتهويد و اعتصار الفلسطينيين، وفي بناء المستعمرات وفي تغيير معالم الجغرافيا والديموغرافيا والآثار في كامل الأراضي الفلسطينية. وهو لذلك يشتري الوقت بالمفاوضات التي لا تكلفه شيئا و يمكن أن تمتد لسنوات، ولكنه مستعد لأن يقلب الطاولة ويوقف التفاوض في أي لحظة ولأي سبب، بما في ذلك يهودية الدولة.
ثالثاً: إن الجانب الفلسطيني عليه الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولا بأس في ذلك، كي لا يعطي نتنياهو الفرصة للإدعاء بأنه لا يوجد شريك فلسطيني للسلام. غير أن هذا الاضطرار لا ينبغي أن يمثل مدخلاً لإعطاء تنازلات غير مبررة، خاصة وأن الجانب الفلسطيني قد وصل إلى قاع الوادي، فلم يعد لديه مساحة للتنازلات أبداً عن الثوابت وفي مقدمتها قيام دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967 تكون عاصمتها القدس الشرقية، وتشمل الضفة الغربية وغزة وأن ينال اللاجئون حقوقهم التي أقرها المجتمع الدولي. إن الجانب الفلسطيني يفاوض خصما أنانيا استغلالياً متغطرسا منقطع النظير. و الفلسطيني يفاوض وهو يعاني من الانقسام الذي سيسته وحزبته حماس إلى درجة أفقدت المسألة بعدها الوطني، وأفقدت الفلسطينيين جزء كبيراً من التعاطف العربي والدولي. ويفاوض وهو يفتقر إلى الغطاء والدعم العربي، نتيجة لحالة البؤس السياسي الذي وصلته الأقطار العربية، والدور الخافت الباهت للجامعة العربية. ولم يبق من دعم حقيقي للجانب الفلسطيني سوى الأردن بالدرجة الأولى والسعودية وعدد محدود جداً من الدول العربية الأخرى.
رابعاً: أن الجانب الأوروبي راح يفقد الثقة في إسرائيل رغم ضغوط الجاليات اليهودية والضغوط الأمريكية، وأصبحت التوجهات الشعبية والنخبوية في كثير من الأقطار الأوروبية، ترى في إسرائيل وجهها البشع: الاحتلال والاستعمار والتمييز العنصري وعدم الرغبة في السلام. ولكن هذا التوجه الأوروبي الإيجابي يحتاج إلى نشاط عربي وفلسطيني داعم له. والغريب أن الجانب الفلسطيني والجامعة العربية لم يعملا حتى اليوم على تشكيل وحدات عمل متحركة: قانونية وبرلمانية ونسوية وطفولية و بيئية وإنسانية وحزبية وشبابية و أكاديمية لتتواصل مع المؤسسات المناظرة الأوروبية بالدرجة الأولى والأمريكية والعالمية بالدرجة الثانية. ولا نعتقد أن إنشاء مثل هذه الوحدات النشطة عملية صعبة إذا توفرت الإرادة و التمويل المناسب لها. وما أضعف الإرادة و أكثر المال في المنطقة العربية، وما أقل هذا وذاك فاعلية في خدمة القضايا العربية.
خامساً: أن المرحلة الحالية لا تتطلب أبداً أن يكون الأردن شريكاً في المفاوضات، ولا طرفاً فيها، إلى أن يتوافق الفلسطينيون والإسرائيليون على الحل الذي يحقق السلام دون أي تفريط بحق الفلسطينيين. وهنا تأتي المصلحة الأردنية الكبرى في أن تسفر عملية السلام عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة على التراب الفلسطيني في الضفة وغزة. أما الحدود فقد كان الأردن حريصاً على أن لا يقع أي إجحاف بحقوق الجانب الفلسطيني من حيث الحدود والتي ترسمت بموجب الحدود الفاصلة بين فلسطين والأردن في زمن الانتداب. ويمثل مجرى نهر الأردن هذا الخط الحدودي إلى حد كبير. ما تحاول إسرائيل أن تفعله هو تصدير أزمة الحدود لتصبح بين الأردن وفلسطين، ولذا خرج نتنياهو بفكرة وجود قوات إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية الحدودية في غور الأردن غربي النهر، حتى تكون الضفة الغربية محاطة بالكامل بالقوات الإسرائيلية والجدار العازل على غرار قطاع غزة. أما موضوع اللاجئين فهو أمر لا جدال فيه. إذ على إسرائيل أن تلتزم بحق العودة وعلى المفاوض الفلسطيني أن يتمسك بحقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة أو التعويض حسب القرار (194) ، بغض النظر أين يسكن هؤلاء، وأي جنسية يحملون، فذلك لا يحرمهم من حقوقهم التي تتنكر لها قوة الاحتلال. وتسعى إسرائيل دائماً إلى تصدير أزمتها إلى الدول العربية من خلال الخلط بين الواجبات والالتزامات التي يتوجب عليها الوفاء بها: كدولة محتلة و طاردة للفلسطينيين من ديارهم وبين تفاصيل معيشة اللاجئين أو حالاتهم المدنية. ان النزاع فيما يخص اللاجئين والنازحين هو فقط مع إسرائيل التي تحاول التنكر لحقوقهم. وما ورد في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية أنه عند بحث موضوع اللاجئين ينبغي أن يكون هناك حضور أردني، إما من خلال لجنة اللاجئين الرباعية أو أي مسار يتم الاتفاق عليه. ويتم التعاون بين إسرائيل والأردن في هذا المجال على المساعدة في استقرارهم settlement. ولم ترد كلمة توطين التي تحاول إسرائيل دائماً تمريرها في العقل والإعلام العربي. ولم تشر الاتفاقية إلى أين سيكون هذا الاستقرار سواء في ديارهم التي أخرجوا منها أو في دولة فلسطين أو أي مكان آخر.
إن المطلوب في هذه الفترة أن تكون هناك وحدة متخصصة متعمقة الخبرة والمعرفة والاتصال في وزارة الخارجية لمتابعة ما يجري، ومراقبة خطوط التفكير الإسرائيلية في التفاصيل و فيما هو عميق و غير معلن، دون أن يكون الأردن طرفاً في العملية إلاّ فيما يطلبه الجانب الفلسطيني من الدعم والمساندة. والأردن يفعل ذلك دائماً.
ومن هنا فإن القلق على المصالح الأردنية ليس له ما يبرره، ولا يستطيع الأردن أن يعلق أمر بناء دولته الديموقراطية الحديثة إلى أن تنتهي المفاوضات، كما وأن التشكيك في تآمرية النتائج مجرد استباق سوداوي. و على الأردن أن يقوي من نفسه،و يدعم من إمكاناته، و يعمل بكل جهد وعزيمة وإرادة جماعية لاستكمال برامج الإصلاح السياسي والاقتصادي والتعليمي و المؤسسي، وتحقيق التماسك الجماهيري وتعزيز الوحدة الوطنية والانطلاق بكل ثقة إلى المستقبل.