لا أظنّ أنّ مجتمعاً من المجتمعات أو عصراً من العصور يخلو من ظاهرة الغشّ ولاسيّما في التجارة والصناعات والتعاملات اليومية، لكنّ الغشّ يختلف حجم انتشاره من مجتمع إلى مجتمع ومن زمنٍ إلى زمن، فهو في المجتمعات المتخلفة أوسع انتشاراً منه في المجتمعات المتحضرة، لأنّ القوانين في المجتمعات المتحضرة تضمن أكبر قدْرٍ من السيطرة على حالات الغشّ ومحاسبة مرتكبيها.
وكذلك يكون الغشّ في أزمنة الفقر والأزمات الاقتصادية أكثر منه في أزمنة الرخاء، لأنّ الجوع والحاجة قد تدفع بعض المحتاجين والفقراء إلى الغشّ لتحقيق موارد تكفيهم لمواجهة متطلبات العيش.
وعلى ذلك فإنّ انتشار ظاهرة الغشّ يؤشّر على اختلالات اجتماعية لا يجوز السكوت عنها أو الاستهانة بها أو غضّ الطرف عنها، لأنّ استمرارها قد يفتك بالمجتمع ويهددّ بانهياره وتفكّكه، ولذلك فالمجاملة في هذا الأمر هي مشاركة في الإضرار بالمجتمع وإلحاق أفدح الخسائر به على مختلف الأصعدة.
ولا يجوز لنا أن ننكر أنّ الغشّ قد انتشر في مجتمعنا انتشاراً خطيراً، ولم يتوقّف عند حدّ خلط الماء بالبنزين، وبيع أسطوانة الغاز فارغة أو ناقصة، والغشّ في موادّ البناء، وبيع المواد الغذائية والأدوية بعد انتهاء صلاحيتها، وبيع البضاعة ذات النوعية الرديئة على أنّها بضاعة ذات نوعيّة لا مثيل لها، والغشّ في سائر صناعاتنا الوطنية ممّا أدّى إلى فشلها وعدم إقبال الناس على شرائها إلا في النادر، إلى غير ذلك من الحالات التي يصعب حصرها، حتّى وصل الغشّ إلى مجالات تعتبر خطوطاً حمراء لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف أن تقترب من الغشّ أو شبهة الغش، وأقصد بهذه المجالات: مجالات التربية والتعليم والجامعات والثقافة والإعلام، فمتى وصلت آفة الغشّ إلى هذه الحقول فاقرأ على المجتمع السلام!! فالكذب الذي يُمارسه كثير من وسائل الإعلام هو شكل صارخ من أشكال الغشّ الذي يصل إلى درجة التزوير وتزييف الحقيقة، وما يحدث في قاعات الثانوية العامّة في مواسم إجراء امتحانات التوجيهي هو شكل خطيرٌ من أشكال الغشّ، حيث يتفنن الطلبة في ابتكار وسائل للغشّ، ويتفنن الأهالي، وهذا هو الأخطر، في حثّ أبنائهم على الغشّ، ممّا يؤكد أنّ الغشّ في الثانوية العامّة تطوّر حتى أصبح ممارسة ثقافية يحميها المجتمع نفسه. أمّا الجامعات، فالغشّ فيها هو الكارثة الحقيقية بعينها، ولا شكّ في أنّ الغشّ فيها هو امتداد لما مارسه الطلبة من غشّ في مدارسهم وفي الثانوية العامّة وبدعم وتشجيع من أهاليهم.
ويتمثل الغشّ في الجامعات في صورٍ يندى لها الجبين، منها الغشّ العادي في الامتحانات الذي يمارسه الطلبة، لكنّ الأخطر منه هو السرقات العلميّة التي أصبح طلبة الدراسات العليا من ماجستير ودكتوراه يمارسونها وهم يعدّون أطاريحهم الجامعية، فقد كثر في الآونة الأخيرة اكتشاف رسائل جامعية في جامعاتنا قد اعتمدت بصورة جزئية أو كليّة على رسائل أو كتب سابقة.
لكنّ الأدهى من ذلك كلّه أن يشيع الغشّ في الأبحاث العلمية التي يتقدم بها بعض أساتذة الجامعات لغايات الترقية، حيث يكتشف بين الحين والآخر أبحاث مسروقة عن أبحاث سابقة أو مترجمة عنها، ويقال الأمر نفسه عن بعض القصائد والقصص والروايات والمسرحيات مما ينقل بعضه عن بعضه الآخر.
إنّ الغشّ هو سلسلة مترابطة من الحلقات يبدأ بأمرٍ صغير ليصبح بعد ذلك آفة تنتشر في مسارات الحياة كافة لدى الشخص الغشّاش، وقد أصبح في مجتمعنا ظاهرة فاشية تستحق الاهتمام والمعالجة العاجلة. أفلا يكفينا ما نعانيه من آفة الواسطة حتّى تنضمّ إليها آفة الغشّ؟! إنّ ذلك ممّا لا يطيقه مجتمع من المجتمعات ولا تصمد أمامه أمّة من الأمم.
salahjarrar@hotmail.com