عروبة الإخباري – خاص – عن جريدة الرؤية العمانية – يوم الأحد المقبل 12 يناير، تمر الذكرى الخمسون لانقلاب زنجبار والذي أنهى الحكم العماني هناك، وأدى إلى مذبحة كبيرة راح ضحيتها الآلاف من الأبرياء وتم الاستيلاء على ممتلكاتهم بالقوة، بعد حكم عماني حقق العديد من الإنجازات والتي لا تزال قائمة تشهد على عراقة العمانيين الذين جعلوا من زنجبار منارة لأفريقيا كلها، والتي كانت السباقة في كل نهضة وتطور على صعيد البنيان والتطور والنماء أو على الصعيد السياسي والثقافي والنيابي والإعلامي والتعليمي.
إن هذه الذكرى يجب أن تفتح مجالات نقاش ودراسات حول التاريخ العماني في أفريقيا، ليس من باب التغني بالأمجاد الغابرة أو البكاء على الأطلال، وإنما لمعرفة ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟، فعجلة التاريخ تدور ولن تعود إلى الوراء، فلا يمكن معرفة الحاضر أو المستقبل إلا بمعرفة الماضي، وشبابُنا اليوم في حاجة ماسة للتعرف على أمجادهم وتاريخهم، فإذا لم يعرفوا ذلك من وطنهم فلن يعرفوه من الآخرين.
ومما يؤسف له أن تمر السنون الخمسون هذه، وقد شاهدنا خلالها طمس الهوية العمانية هناك، في كل شيء من جانب الإنقلابيين ومن جانب العمانيين أنفسهم الذين بدوا وكأنّ الموضوع لا يعنيهم لا من قريب أو بعيد، مما أعطى أناسا آخرين ليس لهم علاقة بذلك المكان أو ذلك التاريخ، الفرصةَ في أن يتصدوا لسرقة ذلك الإرث الحضاري ومحاولة نسبه إلى أنفسهم، كما أنّ بعض القنوات الفضائية التي اهتمت بذلك، حاولت من جانبها التقليل من الدور العماني، وكل ذلك لأنّ من يُفترض أن يهتموا لم يهتموا، وقد خسرنا الكثير من التدوين والتوثيق لأنّ الكثيرين ممن عاصروا الأحداث انتقلوا إلى الدار الآخرة، وأخذوا معهم التاريخ في صدورهم، مما أوجد إشكالا عند الجيل الجديد من أبناء الوطن الذين لا يعرفون شيئا عن تاريخ بلادهم الناصع وتاريخ أسرتهم الحاكمة.
لقد حدثني أحد الشباب الخريجين أن كتاب “زنجبار- شخصيات وأحداث” الذي ألفه “ناصر بن عبد الله الريامي”، أفاده كثيرا في معرفة تاريخ الوجود العماني في الشرق الأفريقي، وكان اندهاشه أنّ أحداث الانقلاب وقعت في الفترة القريبة جدا، عكس ما كان يظنه، وكان اندهاشه أكثر أن السلطان “جمشيد بن عبدالله آل سعيد” آخر السلاطين العمانيين في زنجبار ما زال على قيد الحياة، وذكر لي مما ذكر أنّ هناك خطأ في مناهجنا وفي إعلامنا، إذ أنّ التاريخ العماني والشخصيات العمانية غائبان عن الإعلام والمناهج، ويرى أنّ كل ما نفعله هو رد فعل فقط، إذ نقيم الدنيا ولا نقعدها إذا أحدٌ مّا نسب إليه بعض الشخصيات العمانية أو نسب إلى نفسه بعض التاريخ العماني، أو انتحل الفنون العمانية، وفي واقع الأمر فإنّ التقصير منا. وأنا أؤمن بكلامه وأراه عين الصواب، فهل كنا ننتظر أن تثور تلك المناقشات في مواقع التواصل في النت عن التاريخ والشخصيات العمانية والفنون العمانية، حتى نفكر في إنشاء قنوات تراثية أو مراكز تهتم بالتراث العماني؟! ودائما عندما تصدر قرارات كردّة فعل، تكون قرارات فاشلة ولن تؤدي الغرض المطلوب.
ومن التقصير العماني حول زنجبار، أنّ قنصليتنا هناك بدأت عملها منذ أكثر من 20 عاما حتى الآن، ولكن مع ذلك فإنّ التقصير واضح في العديد من المجالات، إذ أن قصور السلاطين مهملة، واندثرت قبور شخصيات عمانية مهمة مثل قبر “أبو مسلم البهلاني” وقبر “أبي نبهان الخروصي”، حيث حكى الشيخ “أحمد الفلاحي” أنه فوجيء تماما عندما ذهب لزيارة مرقدي العلمَين العمانييّن، فوجد أن القبور قد اندثرت وليس لها وجود في الواقع، ثم إنّ المتتبع لحلقات برنامج “من السواحل” الذي أعده وقدمه الزميل “محمد المرجبي” عبر التلفزيون العماني، يخرج بانطباع هو أنّ التقصير لم يقتصر على المباني وعلى الأموات، بل لحق الكثير من البشر، خاصة من الذين ولدوا في عمان وهاجروا إلى تلك الديار طلبا للرزق، ثم تقطعت بهم السبل، فأصبحوا أقرب إلى “البدون”، في وقت كان من الممكن دعم هؤلاء بالمال مع بقائهم هناك، وهي مصلحة إقتصادية عمانية بحتة لو نظرنا إليها من منظور ذي بعد وطني.
حتى صباح السبت 11 يناير عام 1964 كانت زنجبار، جزيرة عربية، يحكمها سلطان عربي وهو حفيد السيد “سعيد بن سلطان”، ففي مساء ذلك السبت عاد الناس إلى بيوتهم، والهدوء يلف الجزيرة، وبعد منتصف الليل شق الهدوءَ صوتُ بعض الطلقات، لم يستمر طويلا، فذهب الناس إلى نومهم مطمئنين، دون أن يتوقعوا أنّ الأسوأ في طريقه إليهم، وما هي إلا ساعة بعد انتصاف الليل، حتى وقع الفأس في الرأس، فقد اجتاحت الأحياء والدور العربية فرقٌ من الجنود، فشرعوا في قتل سكانها من العمانيين، واستباحوا النساء، ونهبوا البيوت والممتلكات، وخلال دقائق معدودة تحولت بيوت العمانيين وأحياؤهم، إلى مسالخ وإلى حمامات دم، وأصبح “قتل طفل أو شيخ أو امرأة عربية أسهل من التفكير بقتل نملة”، حيث ذكرت بعض الإحصائيات غير الرسمية أنه سقط في هذه المذبحة ما يزيد على 20 ألف قتيل، ولم يطلع صباح الأحد يوم 12 يناير 1964 إلا وزنجبار، لم تعد عربية، فقد كانت طلقات الرصاص تلك إيذانا بساعة الصفر لعملية حصار لمقر السلطان “جمشيد”، فقد نجحت أساليب التحريض والتجهيل والغزو الفكري على مدى العقود الماضية، في تفريغ أدمغة بعض الأفارقة من قيم الأخوة والتسامح بل والإنسانية، وحشوها بنزعة التعصب والعنصرية وبثقافة الحقد ضد العمانيين، فكان الإنقلاب الدموي، لاستئصال شأفة العرب حكاما ومحكومين، تم معظمه بالسلاح الأبيض وبدم بارد، وفي أكثر الانقلابات وحشية ودموية في القرن العشرين.
هناك مجموعة من الكتب التي صدرت من بعض الشخصيات العمانية التي عاشت التجربة، أو من الذين التقوا بمن عاش التجربة، ومن هذه الكتب كتاب “زنجبار – التكالب الإستعماري وتجارة الرق” الذي فند فيه مؤلفه الشيخ “عيسى بن ناصر الإسماعيلي” المزاعم الغربية حول دور العمانيين في تجارة الرق، وهو كتاب هام اعتمد فيه على الأسلوب العلمي في تفنيد كل الأكاذيب، وهناك كتاب آخر هام هو كتاب “الصراعات والوئام في زنجبار”، وتنبع أهمية هذا الكتاب أنّ مؤلفه هو الشيخ “علي بن محسن البرواني” آخر وزير خارجية في زنجبار العربية، إذ جاء الكتاب كشهادة عصر وذكرياته عن الانقلاب، وعن عشر سنوات قضاها سجينا في سجون “نيريري”، وهناك كتاب آخر صدر مؤخرا عن زنجبار لمؤلفه السيد “سعود البوسعيدي” يحكي ذكرياته عن الحدث، كما أن “حبيبة الهنائية” لها كتاب عبارة عن ذكريات الطفولة كما سمعتها من أهلها عن الانقلاب وعن رحلة تهريبها من هناك خوفا من رجال “عبيد كرومي” سمّته “العودة إلى حيث الحلم”، وتستعد “هدى حمد” لإصدار رواية “التي تعدّ السلالم” توثق لبعض ما حدث يوم الانقلاب، وكان قد صدر كتاب “زنجبار – شخصيات وأحداث” الذي فند فيه مؤلفه “ناصر الريامي” الكثير من الأباطيل والافتراءات التي نسجتها أقلام الاستعمار ضد الحكم العماني في أفريقيا، ووثّق تاريخ شخصيات كانت تمثل صفوة المجتمع العماني آنذاك، في كافة الجوانب من فقهاء وعلماء وقضاة وشعراء وأدباء وكتاب وصحفيين ورحالة ومغامرين وتجار، ومن الفصول المهمة في الكتاب، الفصل الرابع الذي عنونه بـ “سقوط زنجبار”، استعرض فيه انقلاب يناير الأسود، وركز على أهم التفصيلات منذ البدايات الأولى وحتى لحظات الإعلان عن سقوط زنجبار، معتمدا على المقابلات الشخصية، منها مقابلات مطولة مع السلطان “جمشيد” نفسه في بيته المتواضع في حي “فيكتوريا جروف” في مدينة “بورتسماوث” في بريطانيا والذي اشتراه بعد الإنقلاب وما زال يعيش فيه حتى اليوم.
لقد شكلت هذه الكتب وغيرها، ردا منطقيا على العديد من الكتب والدراسات الغربية التي شوهت التاريخ العماني في أفريقيا، فألصقت بالحكم العربي تهمة التعاون مع الاستعمار، وحمّلت العمانيين أكثر التهم سوادا في تاريخ أوروبا وأفريقيا، وهو بيع الآلاف من الرقيق الأفارقة لأوروبا وأمريكا، فيما كان الدفاع العماني غائبا وغير مسموع.
بقدر ما هو شيء مهم وعظيم توثيق التاريخ العماني في زنجبار، إلا أنّ مَن يطلع على الواقع، فإنه يصاب بحسرة وألم لما آلت إليه الأمور هناك، خاصة بعد أن يطلع على المؤامرات التي حيكت ضد هذا الوجود وضد الأسرة الحاكمة التي لها الفضل الكبير في تطور ورقي الشرق الأفريقي كله، خاصة العاصمة زنجبار، التي ترقد على ثراها شخصية عبقرية نادرة في الوطن العربي هو السيد “سعيد بن سلطان” الذي أسس الحكم العماني الحديث هناك، وبنى دولة عصرية كانت الأولى في القارة كلها، وهو الذي بنى اقتصاد زنجبار بزراعته للقرنفل في تلك الجزيرة والذي أصبح مصدر الدخل الرئيسي الآن، فالمسؤولية كبيرة على الجهات المعنية في الدولة لإعادة الاعتبار إلى ذلك الجزء من تاريخ الوطن بالحفاظ على ذلك التاريخ والإرث الحضاري كل في مجاله.
Zahir679@gmail.com