د.أحمد القديدي/كيف أهملنا جناحي الديمقراطية: القضاء والإعلام؟

حين نتأمل حصيلة سنوات ثلاث من انطلاق التغيير العربي ونحاول تقييم الناتج الثوري الخام على المجتمعات العربية ومعرفة مدى التحول السياسي والاقتصادي والفكري الذي طرأ عليها بعد تضحيات جسيمة وإعادة نظر جذرية في كل المعطيات والملابسات والخلفيات التي رفضتها الشعوب وأرادت إلغاءها وتعويضها بمنظومة قيم جديدة، فحين نطرح هذه الأسئلة الحارقة نكتشف أن المجتمعات التي قامت بهذه الهزات العنيفة، مثل تونس ومصر وليبيا واليمن، لم تنجح في ترميم أنقاض منظومتين أساسيتين، هما مؤسسة القضاء ومؤسسة الإعلام، وهما من المفترض أن تقودا كل مسار التغيير المنتظر لتحقيق ما يريده الشعب! أليس شعار الربيع كما بدأ في تونس هو عبارة الشعب يريد؟
المشهد الراهن في تونس ومصر وليبيا واليمن لا يوحي بأن النخب الجديدة في الحكم أو المعارضة وجهت ما يليق من العناية إلى منظومتي القضاء والإعلام، بينما كان الأجدر البداية بإصلاحهما للانطلاق نحو تحقيق أهداف التحول، أي هندسة مجتمعات الحرية والكرامة والمساواة والديمقراطية والقطع الكامل مع مساوئ الأنظمة القامعة الجائرة التي أهلكها الحكم الفردي والعائلي والظالم والمعتمد على فرض الأمن المغشوش عوض الأمن المدني الضامن للأمان العادل والتقدم المتوازن وفي النهاية العودة إلى دورة الحضارة الإنسانية التي أخرجونا منها بسبب الخيارات الخاطئة والمؤامرات الدولية وبسبب عجزنا الهيكلي عن تأصيل حداثتنا.
ونحن نجزم من موقع التجربة وبفضل الاعتبار بأحداث الدهر أن الجناحين اللذين تطير بهما الديمقراطية الحق هما القضاء والإعلام، لأن القضاء، وهو سلطة مستقلة في الأصل، هو الذي يحدد طبيعة العلاقات بين المواطنين فيما بينهم ويضبط العلاقات بين المواطن والسلطة ويؤمن مسار العدل بين الناس، فلا يشعر أحد بأنه مظلوم أو مسلوب الحقوق أو محروم من الحرية بدون وجه حق ونحن ندرك أن يقين واحد منا بالظلم هو الذي يفتح في وجهه أبواب استرداد حقه بوسائل أخرى تصبح لديه مشروعة، لأن القضاء الذي تحميه الدولة لم ينصفه وبالتالي نزع عنه صفة المواطن ولا نجد تفسيرا للعنف وللإرهاب والجريمة غير هذا الشعور الدفين بأن الحق الذي لا يؤخذ بالوسائل القانونية الشرعية إنما يؤخذ بالقوة الفردية أو القبلية وبتحويل القانون عن مجراه.
أما الإعلام فهو المجال الحيوي الثاني الذي يتيح للماكينة الديمقراطية أن تعمل بسلام وبأقل المخاطر الممكنة، لأن الوسائل الاتصالية الحديثة التي جاءت بها الثورة الرقمية وطورتها الأجهزة الصغيرة المحمولة والشخصية جعلت من كل مواطن عادي رجل إعلام وأداة اتصال، فهو يستقبل المعلومة ويقيمها ويتأثر بها ويوزعها على عدد متزايد من الناس، فقد تحول المواطن من مستهلك للإعلام إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي إلى منتج للإعلام بخيره وشره وبصالحه وطالحه ونحن العرب بقينا بعيدين عن مجتمع المعرفة الكوني الذي يحيط بنا، لأننا أيضا في هذا المجال ضيعنا الفرص التاريخية ولم نتمكن من امتلاك ناصية التكنولوجيا الرقمية وظللنا عالة على غيرنا من الأمم.
وحين نقول اليوم بعد التحولات العربية وعودة الوعي للنخب المثقفة إننا لم نقم بما يجب علينا من مسؤوليات في مجالي القضاء والإعلام فلأننا شاهدنا ما يقع في العديد من البلدان العربية من إعادة توظيف القضاء لخدمة السياسة، ففي مصر التي نعتبرها رائدة القضاء العربي نلاحظ تورط بعض المحاكم في تصفية حسابات سياسوية (لا سياسية) لتغليب شق على شق أو اغتيال تيار سياسي لفائدة تيار آخر وبالطبع نجد استثناءات في القضاء المصري تحاول الحفاظ على هيبة هذا السلك وتستند إلى ضمائر القضاة الحية لتنقذ الحقيقة والقانون وتنحاز للأخلاق والفضيلة رغم إغراءات الانحراف وامتيازات دنيوية عاجلة.
أما الإعلام المصري فهو يشكو أيضا من نفس الداء، لأن بعض رجاله ونسائه استبدلوا الحقيقة المحضة بالواقع المفروض ونسوا في دوامة الأحقاد أن تأثير كلامهم وتحاليلهم على الناس كبير فانحرفوا عن الإصداع بالحق إلى سهولة ترديد الشعارات المملاة عليهم وهنا كذلك لا بد من إنصاف عدد كبير منهم أثروا إرضاء ضمائرهم وإرضاء الله تعالى بالانحياز للحقيقة والكف عن التهريج والتمسك بالأبقى، أي بما ينفع الناس، ومصر اليوم أحق من بلدان سواها أن يكون إعلامها رائدا وأنموذج قيادة فكرية كما كان في العديد من المحطات التاريخية الحديثة.
وفي تونس لم يتحقق إلى اليوم وفاق مقنع بين الفرقاء السياسيين وبين أهل القضاء حول رسالة القضاء وطبيعة أداء تلك الرسالة باستقلالية وحياد، فلم تنشأ هيئة جديدة للقضاء تكون منزهة عن تدخل السلطة التنفيذية ولم يفقد الحكام الجدد إرادة تدجين السلك القضائي من هنا وهناك والحال أن الجميع في تونس يعلمون أن القضاء منذ عهد بورقيبة وتفاقم الوضع مع عهد بن علي كان دائما السيف المسلط على رقاب المعارضين والأحرار وكانت التعليمات تصدر لعميد قضاة التحقيق أو للنائب العام حتى توضع ديكورات قضائية لعمليات تصفية الخصوم والمزعجين وبالطبع كان جل القضاة شرفاء، لكن الأنظمة الفاسدة كانت تهمش هؤلاء وتستند إلى الطيعين لبلوغ غاياتها.
أما الإعلام التونسي فقد تحرر تماما من القيود القانونية المكبلة لكن جزءا منه لم يفقد تقاليد الأمس بتلبيس الوقائع لبوس الأيديولوجيا أو المصالح الشخصية الضيقة وتسخير الحرية لغايات حزبية فئوية، فازدهرت سوق الشائعات وانتصبت دكاكين الإفك حتى أصبحنا نقرأ الصحف الصفراء بالمقلوب أي أن انتهاك الأعراض الذي كان بضاعة رائجة في عهد بن علي تحولت إلى شتم ضحايا آخرين ومواصلة نفس تجارة العار، لكن بتغيير المستهدفين وكنا نعتقد أننا طوينا هذه الصفحة السوداء إلى الأبد.
إن دولنا الجديدة مدعوة للاعتبار بما وقع فيها وفي سواها حتى نعيد لنسر الديمقراطية جناحيه ونراه محلقا في العلا نحو القمة الشماء، كما قال شاعرنا أبو القاسم الشابي منذ عقود.

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري