حسم اغتيال الوزير السابق محمد شطح ربط الأزمة السورية بلبنان، وكرّس عملياً «تلازم الأزمتين». لم يكن لدى فريق «14 آذار» أي شك، اذ قال إن القاتل «هو الذي تعرفونه… القاتل هو نفسه، الذي يوغل في الدم السوري واللبناني، هو نفسه من بيروت الى طرابلس الى صيدا وكل لبنان، هو وحلفاؤه اللبنانيون من درعا الى حلب الى دمشق». وللردّ على هذا الاتهام الواضح، حاول النظام السوري وحليفه «حزب الله» توجيه الأنظار الى «التكفيريين» ثم الى جماعات محدّدة هو في الحقيقة من صنعها.
بعد ساعات قليلة على تشييع الراحل شطح، وبالتزامن مع لقاء العاهل السعودي والرئيس الفرنسي في الرياض، أدخل الرئيس اللبناني معطىً ديناميكياً لافتاً الى الأزمة، حين أعلن أن السعودية قدّمت ثلاثة مليارات دولار لتحديث سلاح الجيش اللبناني من فرنسا. هذا أيضاً ردّ قوي، واستراتيجي، على الاغتيال الذي وضعه خبراء ومحللون في سياق الحرب بالوكالة بين سورية والسعودية، لكن يمكن القول بالأحرى انه استثمارٌ في الدولة، تعزيزاً لجيشها على حساب السلاح «غير الشرعي» الذي وفّره النظامان السوري والايراني لـ «حزب الله» وسائر الميليشيات التي تعمل في خدمتهما. لا شك في أن ميشال سليمان وضع نفسه في تحدٍّ صعب. ففي أقل تقدير سيعتبر النظام السوري و «حزب الله»، وهما في أوج التوتر، أنه انحاز الى محور عربي – دولي فيما كانا على يقين بأن لبنان-الدولة مصادرٌ بقوة الترهيب والتخويف لدى المحور السوري – الايراني، المقبل في رأيهما على «انتصار» اقليمي قريب.
لماذا يُقدِم «نظام البراميل» على مزيد من القتل وهو في طريقه الى «جنيف 2»؟ الجواب، وفق الوزير وليد المعلم، لأنه يسعى الى عقد هذا المؤتمر ولديه «رؤية واضحة تنطلق من تطلعات الشعب السوري»، ولم يحدّد عن أي شعب يتحدث، أهو ذلك الذي يرميه النظام بالبراميل المتفجّرة في حلب، أم الذي يساومه في معضمية الشام للسماح بمرور الغذاء اليه، أم الذي يواصل إحكام الحصار عليه، أم هو ملايين المهجّرين والنازحين، أم مئات الآلاف المتروكين في السجون فرائس للموت جوعاً وبرداً ومرضاً. لدى الكثير من أوساط هذا الشعب جواب آخر: فالنظام يقول إنه يريد «جنيف 2» ويتوحّش في القتل لإفشاله قبل عقده، ويفضّل أن يتزامن وصوله الى المؤتمر وقد غيّر الواقع على الأرض أو اختلق وقائع جديدة لاستخدامها في توجيه المفاوضات نحو الأهداف التي رسمها مسبقاً.
جدّد اغتيال محمد شطح في بيروت تأكيد المؤكد، وهو أن النظام السوري وحلفاءه الايرانيين واللبنانيين والعراقيين ليس لديهم سوى «القتل للإخضاع» للتعامل مع من يرفض تسلّطهم وإجرامهم، كأسلوب وحيد مستند الى الرابطة المذهبية أو متنكّر بشعارات «المقاومة» و «الممانعة» للتمويه. لكن الاغتيال في هذا التوقيت، تحديداً، حمل رسائل وإيحاءات سياسية كثيرة، بينها: 1) إن الحرب الاقليمية بالوكالة لا تقتصر على الساحة السورية، وبالتالي فإن أي حل محتمل وأي اعادة رسم لخريطة النفوذ الاقليمي يجب أن يأخذا في الاعتبار أن سورية النظام لا تزال متحكّمة بأمن لبنان واستقراره إمّا مباشرةً أو بواسطة أتباع محليين. 2) إن المشكلة الوحيدة الملحّة الآن هي انتشار جماعات الارهاب التي تروّج مصادر النظام و «حزب الله» أنها وراء اغتيال شطح، وأن تنظيم «داعش» يشمل لبنان طالما أنه يسعى الى «الدولة الاسلامية في العراق والشام». 3) إن قتال «حزب الله» والحرس الثوري الايراني الى جانب قوات النظام لم يسقط الحدود بين لبنان وسورية فحسب، بل «أعادهما» دولة واحدة تمرّ بأزمة واحدة، ولا بد من أن يخضعا في «جنيف 2» لحل يشملهما معاً. وهذا هو تحديداً ما يحتّم مشاركة ايران وحضورها.
لم يكن خطأً موضوعياً أن تتوافق الولايات المتحدة وروسيا على خطورة الارهاب وضرورة محاربته في سورية (وكذلك في العراق ولبنان)، لكنه في صدد أن يكون خطأً تاريخياً جديداً في المنطقة وشعوبها اذا اختصر المسألة السورية بالارهاب، وبالأخصّ اذا قررت الدولتان أن الاعتماد على نظام بشار الأسد ونظام الملالي الايراني و «نظام» نوري المالكي فضلاً عن «نظام حزب الله» في لبنان (أي دول «الهلال الشيعي») هو السبيل الوحيد لضرب الارهاب. وبديهي أن هذه الأنظمة تتوقع مكافآت لقاء هذه المهمة، من دون أن يتوقف الاميركيون والروس عند حقيقة أنها لعبت بـ «ورقة الارهاب» طوال العقد الماضي وصولاً الى هذا الواقع وهذه النتيجة. ولا يبدو أن الاميركيين قد تعلموا شيئاً من تجربة المواجهة مع «القاعدة» في العراق، ومَن في دمشق وطهران هندس دخولها وأدار عملياتها ومَن تولّى حتى إصدار بعض بياناتها ومَن أشرف على تدريب عناصر لها في لبنان.
لعل الحدث الجاري في العراق يعطي ملمحاً وافياً لما يمكن أن تكون عليه الأحوال في سورية (وربما في لبنان) خلال الشهور المقبلة. يذهب نوري المالكي في زيارة الى واشنطن ويتقدّم بمطالب عدة، ثم يقال إنه عاد ممتعضاً لأن الحفاوة كانت متواضعة. بعدها يزور طهران، وغداة عودته تعلن واشنطن أنها وافقت على توفير أسلحة للجيش العراقي لتمكينه من محاربة الارهاب. طوال شهور 2013، لم يمضِ يوم على العراق من دون تفجيرات تساجلت بها «القاعدة» وميليشيا محسوبة على حزب المالكي ووزّعتها على المناطق وفق الهوية المذهبية، مع امتياز انفردت به «القاعدة» بضربها أيضاً تجمّعات للسنّة المصنّفين «متعاونين» مع الحكومة. أخيراً، اختار المالكي أن يعلن من كربلاء بدء عملية «ثأر القائد محمد» (على اسم قائد الفرقة السابعة في الجيش محمد الكروي الذي قتل في احد التفجيرات الارهابية)، ودارت العملية سريعاً في صحراء الأنبار لينتهي أول فصولها بتفكيك خيام الاعتصام في الرمادي واعتقال نائب منتخب كان أحد أقطاب ذلك الاعتصام. أيهما كان الهدف، وأيهما كان الأهم بالنسبة الى المالكي؟ الاثنان معاً، لكن الارهاب كان قاطرة رئيس الوزراء للوصول الى انهاء الاعتصام من دون التعامل مع أسبابه الأساسية، وهي سياسية تتعلّق بأحد مكوّنات المجتمع وتتطلّب أولاً تطبيق الدستور. غير أن نظام المالكي لا يؤمن إلا بأسلوبه، تماماً مثل نظام الاسد.
ليس معلوماً اذا كانت واشنطن ناقشت المالكي في ما يُفترض أن يفعله للخروج من الأزمة السياسية، لكن المتداول أنها ربطت بقاءه في منصبه لولاية ثالثة بنجاحه في احتواء الارهاب في العراق وبتعاونه في محاربته في سورية. معظم شيعة العراق يريدون رحيل المالكي اليوم قبل الغد، والأكراد لا يحبذون بقاءه، لكن المصالح الاميركية – الايرانية ارتبطت به وتتقاطع عند استبقائه، ثم إن «القاعدة» عززت حظوظه، فهي قد تغيب لتعود بعد فترة، لكنه استفاد منها الآن لضرب الاعتصام السنّي. هذا هو النموذج، اذاً، وليس الاسد من سيتوانى في تطبيقه. بل إنه على العكس متعجّل، ويحاول الإيحاء بأن غارات البراميل بمثابة إرهاص للحرب على الارهابيين. والأكيد أنه هو الآخر سيكون هدفه الرئيس توظيف «داعش» وأخواتها لإنهاء انتفاضة شعب سورية عليه. لكنه لا يزال ينتظر اشارة مباشرة – أو من خلال موسكو – بأن الاميركيين يتعهّدون ضمان نظامه مقابل تعهّده القضاء على الارهاب، ولا شروط اخرى لديهم، ما يعني أنه سيكون حرّ التصرف…
* كاتب وصحافي لبناني