عاصفة صاخبة بدأت تهب على العلاقات الأميركية الخليجية والعربية عموما والتركية أيضا والإسرائيلية …. كذلك ولأسباب مختلفة بسبب التغيير المفاجئ لموقف واشنطن من الملف النووي الإيراني. وقد لخص مؤتمر مفكرين عرب إجتمعوا في الدوحة الأسبوع الماضي هذا التغيير بالقول أن 100 مليار دولار أنفقتها دول الخليج في السباق على التسلح ذهبت هباء لأن الغاية من العقيدة العسكرية الخليجية المشروعة كانت متجهة لإحتمال عدوان إيراني على دول مجلس التعاون مع استثناء الموقف القطري والموقف العماني المتسمين بكثير من الحكمة وبعد النظر إزاء بلاد جارة مسلمة هي التي اعتنقت الإسلام منذ فجره المبين وقدر الخليج أن يتعايش ويتفاعل مع متغيرات سياساتها. ثم جاء الوزير جون كيري ليلتف على عزم الرئيس أوباما بضرب المفاعلات النووية الإيرانية ويحول وجهة الدبلوماسية الأميركية نحو الحل السلمي واستقطب كيري أغلب الدول الأوروبية لعقد مؤتمر جنيف 2 بين إيران والخمسة زايد واحد واستطاع أن يروض الحية الإسرائيلية المتحفزة لإستعداء أميركا والغرب عموما ضد طهران بل وأقنع (سرغي لافروف) بضرورة التركيز على مصالح العملاقين الأميركي والروسي في هذا الملف لا التفكير في مصالح شعوب الشرق الأوسط. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن واشنطن هي التي تشكل القاطرة في التعاطي مع الملف الإيراني وهو قضيتها هي دون منازع وتعتبر الإدارة الأميركية أن دول أوروبا وتركيا ودول الخليج العربي والعراق حلفاء لها لا يشكون في نواياها و ليس لديهم حلولا بديلة عن الحلول الأميركية حتى لو عبروا عن بعض إحترازاتهم ومحاذيرهم ( كما فعلت المملكة السعودية والجمهورية التركية وبالطبع كما احتجت إسرائيل معتبرة أن جنيف2 لم يكن مكسبا تاريخيا بل كان خطأ تاريخيا!).
وجاء نشر الأميركان من جانب واحد جزئيات الإتفاق الحاصل بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول المحاورة لها وهو في حد ذاته عملية دبلوماسية تسويقية القصد منها وضع الجميع أما الأمر المقضي حين كشف الأميركيون تفاصيل الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بين إيران والقوى الكبرى (5+1) في جنيف يوم الأحد الماضي وحين نقرأ ديباجة هذا الإتفاق بالعيون الأميركية نكتشف أنه يهدف إلى وضع حد لطموحات إيران النووية مقابل وقف جزئي للعقوبات الدولية والغربية المفروضة على طهران، ومدة الاتفاق 6 أشهر ستشهد مراقبة دولية دقيقة للنشاط النووي الإيراني والتزام طهران ببنود الاتفاق.
وحسب الاتفاق، مع تفاصيل كثيرة للبنود التالية، تلتزم إيران بالتالي وقف تخصيب اليورانيوم لنسبة أعلى من 5 بالمائة والتخلص من كمية اليورانيوم المخصبة إلى نسبة 20 بالمائة ثم وقف أي تطوير لقدرات تخصيب اليورانيوم وعدم زيادة مخزون اليورانيوم المخصب إلى نسبة 3.5 بالمائة إلى جانب وقف اي نشاط في مفاعل آراك ووقف أي تقدم في مجال تخصيب البلوتونيوم والإلتزام بالشفافية التامة في السماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش المفاجئ واليومي لمنشآت إيران النووية، بما في ذلك مصانع أجهزة الطرد. هذه حسب الجانب الأميركي هي تعهدات إيران كما وقع عليها وزير الخارجية الإيراني في جنيف2 أما الجانب الغربي المتمثل في القوى الأميركية والروسية والأوروبية والذي تكفلت الوزيرة الأوروبية للشؤون الخارجية السيدة كاترين أشتون التوقيع باسمه فيلتزم بتخفيف “محدود ومؤقت وقابل للتغيير” لنظام العقوبات على إيران، مع الإبقاء على الهيكل الأساسي للعقوبات كما هو خلال فترة الستة أشهر، ويتضمن ذلك: عدم فرض أي عقوبات جديدة إذا التزمت إيران بما تم الاتفاق عليه خلال فترة 6 أشهر وتعليق العمل بعقوبات محددة مثل العقوبات على التعامل في الذهب والمعادن وقطاع السيارات الإيراني وصادرات إيران البتروكيماوية بما يوفر لها 1.5 مليار دولار من العائدات والسماح بإصلاحات واعادة تأهيل بعض خطوط الطيران الإيرانية مع الابقاء على مبيعات النفط الإيرانية عند مستواها المنخفض الحالي (الذي يقل بنسبة 60 بالمائة عن مستويات 2011) والسماح بتحويل 4.2 مليار دولار من عائدات تلك المبيعات إلى إيران على أقساط بالتزامن مع التزام طهران بتعهداتها في الاتفاق كما ينص التزام الدول المفاوضة لطهران على السماح بتحويل 400 مليون دولار من أصول إيران المجمدة لتغطية نفقات دراسة الطلاب الإيرانيين في الخارج وإجمالا، ستستفيد إيران بنحو 7 مليارات دولار لكن القدر الأكبر من احتياطاتها الأجنبية (نحو 100 مليار دولار) ستظل مقيدة بالعقوبات، وستبقى العقوبات مفروضة على مبيعات الطاقة الإيرانية (ولن يسمح بزيادة الصادرات) وكذلك على البنك المركزي الإيراني وعدد من البنوك والمؤسسات المالية الأخرى.
أما الجزء المسكوت عنه إيرانيا وكشفت عنه المصادر الغربية فهو المتعلق باستمرار العقوبات على أكثر من 600 من الشخصيات والمنشأت الإيرانية التي لها علاقة بالبرنامج النووي وبرنامج الصواريخ. إضافة إلى العقوبات الأساسية على قطاعات أخرى مثل التصنيع العسكري والشحن والعقوبات الدولية وتلك المتعلقة بوضع إيران كـ “دولة راعية للإرهاب”. فنحن العرب وبخاصة الخليجيون معنيون بالدرجة الأولى بالتطور النووي الإيراني لكننا لم يقع توجيه الدعوة لنا لحضور جنيف2 حتى كمراقبين وكذلك تركيا أما عن العراق فلا تسأل فهذه الدولة تغرق يوميا في مستنقع العنف الطائفي ولم تعد مع الأسف تمثل طرفا أساسيا في رسم خارطة الشرق الأوسط والسلام الأميركي الموعود. بينما يصرح بعض الرسميين الإسرائيليين هذا الأسبوع بأن نتنياهو يتلقى يوميا تقريرا أميركيا عن تفاصيل الصفقة الأميركية الإيرانية وخلفياتها ومحاذيرها مع تطمينات مستمرة من واشنطن مفادها بأن أمن إسرائيل وتفوقها العسكري والأستراتيجي هو خيار أميركي دائم وغير قابل للتنازل ولا المساومة. وللحقيقة يجب مواجهة أنفسنا كعرب وننظر إلى وجوهنا في مرأة التاريخ الحديث لنكتشف أن سوريا تغرق أكثر فأكثر في صراع عنيد بين فرقاء انقسموا إلى جزئيات انفلقت هي الأخرى إلى جزيئات ولم تعد تدرك من المنتصر ومن المهزوم ومن الشرعي ومن الخارج عن القانون وأن مصر إنشطرت نصفين يستحيل أن يصطف عاقل حكيم بينهما إلى صف وأن ليبيا تفقد الأمن والأمان ويتسع العنف الأعمى فيها يوميا وأن تونس لم تهتد إلى رجل رشيد يضمد جراحها ويعيد الثقة المفقودة بين المتنافسين وأن العراق فقد في أربعة شهور 9 آلاف ضحية وأن فلسطين تنقسم إلى أحزاب كل بما لديهم فرحون! ثم نريد أن يقرأ لنا العالم حسابا ويفكر في مصيرنا! اللهم عفوك ورضاك وصالح هداك.
د.أحمد القديدي
كاتب وسياسي تونسي