منذ أن كنت طالباً جامعياً في القاهرة، أواخر الستينيات، سمعت من زملاء وأصدقاء مصريين، أغلبهم ينتمون إلى اليسار المصري، عن شاعر يكتب بالعامية قصائد تحرك العواطف وتلهب الخيال؛ تحث على النضال، وتدعو إلى رفض هزيمة حزيران 1967. الأمر الذي خلق لدي فضولاً شديداً للتعرف على هذا الشاعر الثائر المتمرد، نظرا لما كان يستقطبه من إعجاب منقطع النظير بين الأصحاب. وزادت من هذا الشعور مقاطع شعرية مسكونة بحس سياسي متوقد، بعضها أغانٍ للبندقية الفلسطينية، كان يرددها من ورائه أولئك الطلاب المهمومون بحاضر مصر ومستقبل فلسطين على حد سواء.لم يكن الوصول إلى بيت أحمد فؤاد نجم يسيراً لطالب وافد مثلي؛ ليس لأن الشاعر الصعلوك يسكن فوق سطح عمارة متواضعة في منطقة شعبية فقيرة وبعيدة، وإنما لأنه كان موضع ملاحقات أمنية، يثير الاقتراب من مسكنه ارتياب الشرطة السرية، ويجعل من ذلك مغامرة صغيرة محفوفة بالعواقب، الأمر الذي كبح من ميولي الذاتية للتعرف عن قرب على الشاعر المثير للمتاعب، وحملني على الاكتفاء بحفظ ما تيسر من أشعاره، وترديدها مع الأصحاب في سهراتهم المنزلية الطويلة.بعد أن صار أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، ثنائياً فنياً ثورياً ذائع الصيت، بات أسهل على الجميع متابعة تلك القصائد العامية المغنّاة، من خلال “الكاسيتات” التي كان يتبادلها المعجبون بين بعضهم بعضاً، كهدايا ثمينة يمكن نسخها مئات المرات، وتوزيعها على أوسع نطاق من الطلبة والمثقفين الغاضبين على ما آل إليه حال العرب، بعد تلك الهزيمة التي لم يخفف من وطأتها سوى المقاومة الفلسطينية، وحرب الاستنزاف، وأشعار أحمد فؤاد نجم، وغير ذلك من مظاهر الرفض وعدم الاستسلام.واليوم، حين يجد المرء نفسه مثقلة بمشاعر الأسى على غياب هذا النجم الذي سوف يظل نوره يسطع في أعالي السماء، فإنه يحار بين رثاء الشاعر المبدع قليل التكرار، وبين التعزية بالسياسي الثائر على الفقر والتخلف والاضطهاد، خصوصاً وأن هذين البعدين في شخصية الراحل الكبير كانا حاضرين بقوة، ومتعادلين بانسجام في سائر محطات حياته الباعثة على الاعتزاز، بفتى يتيم أمّي صنع نفسه بنفسه، إلى أن غدا له من اسمه نصيب وافر.والحق، أن غياب “نجم” أعاد إلى الذاكرة غياب محمود درويش على الفور، رغم الفوارق الكثيرة، والمشتركات الأكثر بين الشاعرين اللذين صار كل واحد منهما علماً مرفرفاً، ورمزاً وطنياً باذخاً في حياة شعبيهما وسائر الشعوب العربية، لاسيما بعد أن أصبح رحيل هاتين القامتين موضع شماتة تفوح منها رائحة الكراهية غير المفهومة، من جانب جماعة الإخوان المسلمين.ومع أن الموت حق تسقى كؤوسه الناس، كل الناس، حتى الرسل والأنبياء، وأن الشماتة بموت خصم لا يجاهر بها سوى مرضى النفوس، ولا يستبيح حرمته غير الصغار، فإن الأمر يصبح أكثر مدعاة للدهشة، وأكثر انغلاقاً على الفهم، حين تأتي هذه الفعلة الممجوجة بكل المعايير، من جانب أناس ظلوا يقدمون أنفسهم كدعاة وأصحاب رسالة دينية، تقول إنه لا يجوز على الميت سوى الرحمة، وذلك قبل أن يتنسموا حكماً هنا، أو سلطة أمر واقع هناك، فإذا بهم على غير ما كانوا يجملون به صورتهم الحقيقية طوال وقت طويل من الخداع.على أي حال، فقد مضى أحمد فؤاد نجم إلى عليائه، تاركاً وراءه موروثاً شعرياً خالداً، وشخصية شعبية متمردة سوف تظل مثالاً يحتذى به من قبل الأجيال اللاحقة، وذلك على نحو ما خلّفه لنا محمود درويش من إرث شعري سوف تحتفظ به الذاكرة إلى أجل غير معلوم. فيما ستبقى واقعة الشماتة بموت “نجم” عارا على أصحابها أبد الدهر، تماماً على نحو ذلك العار الذي لحق بالذين فرحوا على رؤوس الأشهاد، حتى لا نقول احتفلوا، بغياب محمود درويش، الحاضر في الوجدان العام إلى ما شاء الله.issa.alshuibi@alghad.jo