منذ إعلان دولته المستقلة في العام 1943، ينتقل لبنان من احتلال إلى احتلال، مرة يكون علنياً وأخرى مستتراً، وتارة يفرض نفسه من طريق القوة العسكرية المباشرة وطوراً عبر احد المكونات اللبنانية. لكن في كل الحالات، يحاول المُحتل قدر إمكانه الإمساك بنواصي هذا البلد الصغير الذي يحمل في تركيبته بذور انقسامه، فيحرص على أن يسقيها لتستمر وتنمو، بدل أن تضمر مع الوقت، ليتكرس وطناً نهائياً لجميع أبنائه.
وقبل أيام قليلة من ذكرى الاستقلال التي تصادف غداً، رُوّعت إحدى ضواحي العاصمة بيروت بتفجيرين استهدفا السفارة الإيرانية، في تعبير فاقع عن التجاذب الخارجي القائم حول لبنان: من يستأثر بقراره ومن يملي عليه سياساته التي لا يستشار فيها مواطنوه ولا يخيّرون، وكذلك في رد غير مبرر على تقصّد بعض أبنائه توريطه في الحرب الأهلية المحتدمة على ارض سورية التي طالما اعتبره نظامُها صماماً لتنفيس احتقاناته وساحة لـ «مخاطبة» خصومه.
لكن هذا الاعتداء الإرهابي ليس سوى حلقة في سلسلة متصلة من الفعل وردود الفعل المستمرة في لبنان منذ عقود، يستغل مرتكبوها غياب دولة جامعة فيه وتضعضع مؤسساته الأمنية وتوزع ولاءاتها السياسية والدينية، وطغيان الطائفية على المواطنة، ما يسهل العثور على عملاء ومتعاونين، وإيجاد مدافعين ومؤيدين وشامتين.
فاللبنانيون انفسهم، والفلسطينيون والسوريون والإسرائيليون والإيرانيون والعراقيون والليبيون وسائر أجهزة الاستخبارات العربية والدولية، تناوبوا على نخر لبنان واختراق أنظمته وتبادل الضربات على ارضه ومن خلالها، ولم يوفروا فرصة لإضعافه وتشتيت اجتماعه، رغم اختلاف الشعارات وتباين المقاصد والظروف. ومن منهم يتعرض للتفجير اليوم سبق بالتأكيد أن أدى دوره اكثر من مرة في إشعال فتيل أو كبس زر، أو ينتظر عودة الدور إليه.
والإيرانيون الذين استهدفت سفارتهم ليسوا ملائكة سلام وأمان ولا دعاة بناء وازدهار، بل هم مشاركون في معظم ما تعرض له لبنان بأساليب مختلفة وتحت مسميات متنوعة، يرعون تشكيلات وجماعات تدين لهم بالولاء والتمويل والتسليح، يوظفونها لخدمة خطهم السياسي القائم على نظرية الحرب الدائمة لـ «تحرير» كل ما يخطر على البال، من مزارع شبعا حتى فلسطين وصولاً ربما إلى تطوان، في انتحال لشخصية العرب ولبوس لقضاياهم.
وهم دخلوا «ساحة» لبنان بعد السوريين واستناداً إلى خبرتهم، وكان دخولهم مدوياً مع تفجير مقرّي القوات الأميركية والفرنسية في 1983، والذي حلت ذكراه قبل شهر تحديداً. ولا يزالون موجودين بقوة عبر «حزب الله» المدجّج الذي يفرض برنامجه على سائر اللبنانيين فيعطل حياتهم السياسية ما لم تصبح مجرد واجهة لسياساته، ويهدد أمنهم ما لم يكن غطاء لسلاحه ولقتاله إلى جانب النظام السوري، في خروج على الإجماع وكسر لحياد سبق أن أقرّه ووافق عليه قبل أن يتنكر له.
تتعاقب الاحتلالات وتتنوع مسمياتها وأساليبها، ولم يبق للبنان من استقلاله سوى ذكراه المتلاشية وبعض الخطب والاستعراضات الخجولة والأعلام وصفوف الرسميين والنياشين، ولم يبق للبنانيين من دولتهم سوى نتف هنا وهناك، بانتظار أن يستكمل «المحتلون» مهمتهم.