ما أخطر أن يعبر لبناني من شمال لبنان إلى سورية ليقاتل مع المعارضة، لأنه سني، وما أخطر أن يعبر لبناني من البقاع إلى سورية ليقاتل مع النظام، لأنه شيعي. ما أخطر أن يقتل شيعي لبناني سنياً سورياً على الأرض السورية، وما أخطر أن يقتل سني لبناني علوياً سورياً على الأرض السورية.
ما أخطر أن يعبر عراقي شيعي الحدود ليقاتل سنياً سورياً على الأرض السورية، وما أخطر أن يعبر سني عراقي الحدود ليقاتل علوياً سورياً على الأرض السورية.
إننا في خضم حرب مذهبية إقليمية تتدفق فيها المشاعر كالسيول. المشكلة ليست فقط في «العائدين من سورية» غداً أو بعد غد، المشكلة أن النار السورية تمزق اللحمة الوطنية في الدول القريبة والبعيدة.
أسقط العابرون إلى سورية حصانة الحدود في الاتجاهين. مزقوا الخرائط. بدا واضحاً أن السني يريد الاتصال بالسني في الدولة المجاورة بغض النظر عن علامات الحدود، وأن الشيعي يريد الاتصال بالعلوي بغض النظر عن علامات الحدود، وأن العوائق التي تحول دون الاتصال تعامَل كأهداف للشطب والإلغاء. لم يحدث أن رأينا ذلك من قبل، ما أخطر أن يقتل شيعي لبناني سنياً لبنانياً على أرض سورية، او العكس. كيف يتعايشان في لبنان إذا تقاتلا في سورية؟
من حق اللبنانيين أن يشعروا بالخوف الشديد، من واجبهم أن يشعروا بذعر عميق. ما يجري حالياً أشد خطورة وهولاً من حروب السبعينات والثمانينات. كانت الحروب السابقة من طبيعة مختلفة، وكان يمكن ضبط نيرانها ومسرحها، وكان يمكن استدعاء طرف إقليمي لفرض السلام والوصاية ولو تقاضى الثمن. هذه حروب أخرى، بلا حدود أو ضوابط. هي تدور في منطقة أخرى، وها هي ملاعب القتل تمتد من بغداد إلى بيروت مروراً بدمشق. العراق مريض. وسورية ممزقة. ولبنان مرشح للقتل.
إننا أمام مشاهد غير مسبوقة. ليس بسيطاً استهداف السفارة الإيرانية في بيروت على نار الانخراط الإيراني في سورية. وليس بسيطاً أن تعلن «كتائب عبد الله عزام» المرتبطة بـ «القاعدة» مسؤوليتها، وأن تطالب «حزب الله» بسحب قواته من سورية. وليس بسيطاً أن يعلن البيان أن الهجوم هو «عملية استشهادية مزدوجة لبطلين من أبطال أهل السنة في لبنان».
جاء الهجوم الجديد في وقت لا يزال لبنان يرزح تحت وطأة تفجيري آب (أغسطس) الماضي. أدمى التفجير الأول الضاحية الجنوبية (الشيعية) لبيروت. وأدمى الثاني طرابلس (السنية) باستهداف مسجدين ساعة الصلاة. لم يعد هناك ما يبرر التوريات أو تفادي التسميات. دخل لبنان رسمياً مرحلة القتل المذهبي.
إذا صح بيان «كتائب عبد الله عزام» عن هوية المنفذين تتضاعف الخطورة. لم نعد أمام خطر «العرقنة». صارت «العرقنة» جزءاً من المشهد. انفجار الضاحية كان من هذه القماشة. انفجارا طرابلس كانا منها بالتأكيد.
تتلاحق الضربات في بلد فقد حصانته. بلد منقسم عاجز عن تشكيل حكومة جديدة بعد ثمانية أشهر من استقالة الحكومة السابقة. بلد يعيش في ظل برلمان مشلول. بلد تحاول مؤسساته العسكرية والأمنية محاصرة النار من دون المجازفة بالتصدي لأسبابها خوفاً على وحدتها.
لم يحاول اللبنانيون إبعاد النار السورية عن بلدهم. ذهبوا إليها وجاؤوا بها واستعجلوا استيرادها. انقسموا وألقوا بأنفسهم في النار. هذا بصورة فردية وذاك بصورة علنية منظمة. لم يتنبهوا إلى أنهم يلعبون بدمائهم ودماء أطفالهم، وأن هذه اللعبة أكبر من قدرة لبنان على الاحتمال، وأن لبنان مهدد بالسقوط. ليس فقط لأن سقوط الحدود في الإقليم خطر عليه، بل لأن سقوط التعايش يفقده مبررات وجوده.
لن أطرح اقتراحات ساذجة من باب العودة من سورية وتبادل التنازلات لتشكيل حكومة جامعة. يراودني شعور أن كل فريق صار أسيراً لخياراته الانتحارية. ضربت رياح «العرقنة» سورية. وها هي تضرب لبنان. إن لبنان في طريق السقوط. لم يحدث أن تردت العلاقات الشيعية- السنية الى هذا الدرك. ومسيحيو لبنان مساكين، أقل من حجم المرحلة وأخطارها، أقل من الاضطلاع بدور تاريخي يجدد معنى لبنان ومبررات بقائه.