علي عرسان/ربنا ما خلقت هذا باطلاً

من متابعتي للحدث السوري المؤلم وتبعاته الكارثية، ذاك الذي ملك علي نفسي ووقتي وحاصرني حدَّ اللهاث في اليقظة والنوم، خرجت ببعض الخلاصات والاستنتاجات والتصورات، وأسأل الله سبحانه أن تكون ” تهيؤات شخص أتعبه عصره، وأخرجته معاناة شعبه إلى انعدام الثقة بكثيرين مع بقاء اليقين بالله والوطن والشعب والقيم، وبأن هناك خيراً ولو في قليل من الناس، حيث لا يمكن أن تخلو الحياة من خير وخيرين، فـ “إن خليَت بليَت” كما يقول المثل”. وتحت تأثير ما سمعت وما رأيت وما تابعت وما قرأت، في جغرافية سوريا الحبيبة وديموغرافيتها وما يحيط بها من حدث وحديث، خرجت بهذا الذي أضعه فيما يشبه “السيناريو” من بعض الوجوه، لما أتصوره أو أتوقعه حادثاً في بعض الحالات والمواقف والمواجهات والاحتجاجات مما إخاله في مؤتمر جنيف 2 العتيد، ذاك المهيأ لكل وعد ووعيد..
فإذا ما انعقد المؤتمر، ولا أظنه إلا منعقداً، والتقت الجموع الدولية من مصادق ومعاد بنظر هذا السوري أو ذاك من فريقي السلطة والمعارضة، وجاشت انفعالات بعض الأنفس وغلت مراجلها في الأوقات الأولى للقاء الأول حول طاولة الحوار/المفاوضات.. فإنني أخال فريق المعارضين في لحظات هياج هجوم مبني على سابقات مسجلات وتهيؤات ومطالبات ثابتات وشروط مملاة على العدو والصديق في فضائي الراحة والضيق، كأن آخرها ما تمخض عنه مؤتمر الائتلاف الأخير في اسطنبول 9 – 11 نوفمبر 2013 في بيانه الذي تضمن الموافقة على حضور المؤتمر بعد تمنّع وتمتّع بالتمنّع.. أخاله يستعرض ويبالغ في التصادم على أرضية المعارضة العارمة منذ بدأت الأزمة السورية التي غدت كارثة بكل المعاني والأبعاد والصفات، أخاله يبدأ السيناريو العام المتضمن بعض ما يتطلع إليه في الراهن والماضي وفي رشقات نحو المستقبل، بينما فريق الدولة السورية يستمع في هدوء قتَّال يزيد فورة الفائرين وثورتهم وقد يبلغ بنارهم حدَّ التأجج، وبهم حد السقوط في المحظور مما هو معروف له في العرف السياسي ـ الدبلوماسي.. أخاله المشهد “السيناريو” العامر يبدأ وفق الآتي:
سنقول لهم في الاجتماع جملة مختصرة: “أعطونا مفاتيح البلاد وغادروا يا..”، ولن نقبل منهم كلاماً آخر، نحن نذهب للتفاوض على تسليم السلطة وليس لأي هدف آخر”.. وسوف نثبت على ذلك ويدعمنا فيه من بعناهم البلد، سياسيًّا على الأقل. سنقول لهم: نطالبكم بذلك باسم “أصدقائنا” الذين مولونا وسلحونا ودربونا وحمونا واستثمروا جهودنا، ولكن إياكم أن تظنوا أننا كنا مغفلين إلى الحد الذي تركنا فيه الأصدقاء والحلفاء يستعبطوننا؟! فقد أخذنا منهم أموالاً تكفينا وتكفي أولادنا، وإقامات وجنسيات تجنبنا أية مخاطر ومشكلات في المستقبل، وأظهرونا في الإعلام بتلميع فائق حتى غدونا مشاهير الفضائيات وخلفيات الشاشات.. لا تظنوا أننا يمكن أن نأتي إلى سوريا لنحكم ونعيش، فتلك حالة من التعاسة والخوف لا قبَل لنا بها، تلك ليست مهمتنا، لقد انتصرنا لها ولشعبها، أما أن نعيش مآسي ذلك الشعب بعد كل ما لحق به وبالبلاد من دمار وانهيار فتلك نكبة لسنا مستعدين لتحملها.. سنحكم من بعيد بالريموت السياسي الحديث/ سنحكم بوصفنا زعماء ووكلاء، نسمي من يتسلمون المهام ومن يقومون بالعمل ونبقى مرجعاً وواجهة، ونعطيهم أوامر التحرك التي يزودنا بها ” حلفاؤنا وأصدقاؤنا” الذين استنقذوا لنا وصار لهم حق علينا فيه، وتنفيذ أوامرهم هو بعض الوفاء لهم. ونريد أن نطمئن أقاربنا ومن لاذ بنا ووالانا بأننا سنبذل ما نستطيع من جهد لكي لا يمسهم سوء ولكي لا يعانون من ضائقات مادية، فهذا شرط من الشروط التي سنمليها على “حلفائنا”.. وما دامت شروط تتعلق بالمال فهم لن يرفضوها.. أما أولئك الذي قاتلوا فقتل منهم من قتل وجرح منهم من جرح وأصيب بالإعاقات والعاهات الدائمة من أصيب.. فقد ضمنا لهم ألا يلاحقهم الرعيل الأول من الحاكمين الجدد لسوريا المتجددة، أما الرعيل الثاني من الحكام فلا نستطيع أن نضمنه أو نملي عليه شيئاً، فحلفاؤنا لا يقبلون منا إلا ما سطروه لنا في الهامش الضيق، وعلى هذا فإن من المفيد بل من الضروري أن يبدأ أولئك ” الأشاوس” بتدبر أمورهم في المرحلة الانتقالية وما بعدها.. فهناك متسع من الوقت يستطيعون استثماره والتصرف خلاله.
نحن لم نقصر في الدفاع عن مواقفنا وثوابتنا ومطالبنا، فلم نوافق على الذهاب إلى جنيف 2 إلا بشروط، على الرغم من أن العالم كله يقول إن المطلوب الذهاب إلى ذلك المؤتمر من دون شروط.. فنحن لسنا بلا حيلة أو بلا أنياب وأظافر، فقد تمسكنا بشروطنا وأعلناها، ولكن لا نستطيع أن نفرضها على المجتمع الدولي، لقد طالبنا أصدقاءنا بفرضها أو على الأقل بتقديم ضمانات من جانبهم لتنفيذ تلك الشروط.. وإذا ضمن الأصدقاء وحدهم ذلك ولم يقبله رعاة جنيف فسنقبل لأن في هذا منفذ مطالب لنا على أصدقائنا يجلب لنا ما يجلب من دعم ومنافع. لقد كنا صامدين طوال أشهر وأشهر، رفضنا وقبلنا ورفضنا وقبلنا.. وكل ما رفضناه ثم قبلناه كان مما أقره المجتمع الدولي أصلاً سواء من خلال جنيف بأرقامها ومتونها وحواشيها وبياناتها وملحقاتها، أو من خلال مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة وقراراتهما.. وقد ألزمنا النظام في بيان موافقتنا الذهاب إلى جنيف2/ اسطنبول 11 ت2/نوفمبر 2013/ ألزمناه، بل أجبرناه على القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2118 الذي انضم بموجبه إلى وكالة منع الأسلحة الكيمياوية ووافق بموجبه أيضاً على تدمير معامله ومخزونه من السلاح الكيمياوي، واطلع مفتشي الوكالة على 22 موقعاً من أصل 23 موقعاً لتلك الأسلحة في المدة السابقة لمؤتمرنا، وكان آخر موقع زاره مفتشو الوكالة قبل انعقاد مؤتمرنا العتيد ذي البيان السعيد بعشرة أيام أو أكثر قليلاً..!؟ نحن لسنا “هينين” على الإطلاق، فقد جعلنا من ذلك القرار مرجعاً ومستنداً للذهاب لاحقاً إلى قرار من مجلس الأمن الدولي على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما طالبنا به وسعينا له منذ بدأنا النضال.. وكل ما أعلنا عن رفضه أو أفشلناه من مبادرات وقرارات في السابق أعلنا اليوم أننا لم نكن نرفض منه شيئاً ولسنا المسؤولين عن إفشاله.. فنحن شطار، كنا نناور، والسياسة مناورات.. لكن كان لمناوراتنا طعم خاص وثمن مدفوع، فبعد كل استعصاء من تلك الاستعصاءات الكثيرة كان يتم التسليك باليورو والدولار أو بالدرهم والريال، وبأشياء أخرى غير منظورة يمكن أن نعلن عنها في الوقت الملائم إذا اتفقنا على ذلك. المهم الآن أن النظام سينصاع إلى مطالبنا، كل مطالبنا، وإذا لم يفعل فسنحمله أمام العالم مسؤولية إفشال مؤتمر جنيف 2، وإذا ضغط علينا حلفاؤنا وأصدقاؤنا لنقدم بعض المرونة ونتنازل عن بعض الشروط.. فلن نعلن عن تنازل أو عن تراجع مباشرين، وسنداور ونناور حتى.. ومعروف ما بعد حتى.. فنحن أهل حسابات وثبات على المبادئ والمطالب والمكاسب، وقد أثبتنا ذلك قولاً وعملاً حين ضحينا بمقاتلين لنا، هم أعزاء علينا، وأثبتناه حين عرضنا شعبنا الذي نمثله حصرياً للكثير من المآسي والمعاناة، وشباباً هم زهرة سوريا للموت والسجن، لم نعرفم لكننا سمعنا بهم وتبنينا دمهم..؟!. صحيح أننا بقينا بمنجى من الألم والمصائب وأنه لم يجرح منا ولا لنا أحد، وحتى لم يضيق على أحد منا بالمصروف والفنادق والرحلات وبما يودع في الحساب الشخصي من أموال كرصيد مستقبلي لنا ولأبنائنا.. ولكن كنا نشعر بمعاناة غيرنا، ونتكلم عن ذلك بقوة ونحتج ونشتُم ونتهم ونطالب أصدقاءنا بالتدخل العسكري لإنهاء مأساة بلدنا بتدميره واحتلاله!!.. فأية تضحيات أكبر من تلك يمكن أن يقدمها مناضلون في سبيل بلدهم وشعبهم، كما قدمنا من عواصم الغرب خاصة.؟!
في جنيف سنثبت عند مطالبنا فنحن أصحاب مواقف وثوابت، وفي الجلسة الأولى سنطلب من وفد النظام أن يسلم شؤون الدولة السورية فوراً، شؤونها كافة: السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية و.. و.. إلخ، أن يسلم ذلك لحكومة انتقالية كاملة الصلاحيات وأن يستعد لمحاكمة عادلة، أما الرئيس وحاشيته ومن تلطخت أيديهم بالدماء من الموالين له فسيحالون إلى لاهاي.. وإذا لم يقبل وفد النظام بذلك فلدينا أساليب ناجحة جربناها مع وفده في القاهرة أمام جامعة الدول العربية يوم أراد ذلك الوفد أن يقابل الأمين العام للجامعة ومنعناه، وسوف نريهم من تلك الأساليب الكثير الكثير حتى في جنيف.. وإذا عاب علينا أصدقاؤنا ذلك وقالوا لنا: هذا أسلوب غير حضاري وأنتم قادة مستقبليون حضاريون.. وضغطوا حتى لا نستعمل مع وفد النظام القوة فقد نلين قليلاً، بل من المؤكد أننا سنلين فنحن حضارو المستقبل، لكن سنلين من حيث الفعل أما من حيث القول فلا.. وسنقول ونقول: هؤلاء جماعة النظام أيديهم ملطخة بدم شعبنا وأطفالنا و.. و.. وإذا قالوا لنا إنكم قتلة وأيديكم ملطخة بدم الشعب السوري أيضاً وأنتم الإرهاب وسبب الدمار والتشرد و.. و.. ونظر أصدقاؤنا وأصدقاؤهم بعضهم إلى بعض، وبدا على الجميع الضيق والاستنكار، وحار بان كي مون بما يفعل، وبدا أنهم تفاهموا على شيء ضدنا، فسنقترح: “أن نترك هذا لقادم الأيام في سوريا، ولنشكل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات.. واختلفنا على الحكومة وعلى الصلاحيات، وأصر رعاة جنيف2 ومعظم الحاضرين فيه على الاتفاق، وقالوا لنا بصوت فيه حزم: “ينص جنيف 1 على حكومة مشتركة كاملة الصلاحيات تشكل من الطرفين النظام والمعارضة”.. فسوف نوافق رحمة بشعبنا الذي يعاني منذ ثلاثين شهراً ونيف، لكن سنشترط ألا يكون فيها أحد ممن تلوثت يداه بدماء السوريين.. وهكذا نخرجهم ونخرج نحن من الحكومة.. ولكن سنسير جماعتنا من الخارج وهم سيحاولون تسيير جماعتهم من الداخل.. ويبقى الحال كما كان: “خلافات سياسية تعبر عنها معارك دموية”.. وسيبقى لكل أنصار لهؤلاء وهؤلاء، مع فارق وحيد مهم من هم في الخارج بنعمة ويسوسون النقمة، ومن هم في الداخل بنار ويسوسون الدمار..
وستبقى سوريا وشعبها في الجحيم يتقاتل فيها أبناؤها ويقاتلها ويقاتل فيها من هم من غير أبنائها، وتتحول الدار إلى مزيد من دمار وإلى سيول دماء ودموع، وإلى رعب ينمو، وإرهاب يتمدد ويتجدد، على أرضية فتنة كريهة مذهبية على الخصوص وطائفية وعرقية في بعض الأماكن والنصوص.. فتنة ذات أصول وفروع وشُعب ترسل شواظ نار بعد شواظ نار، وفيها من المهلكات شرر كالقصر يحرق من يستهدفهم أولو الأمر من هؤلاء وهؤلاء، ممن يدخلون معترك الموت ويزدرون الأحياء والحياة، وحق الناس في الأمن والأمان والاطمئنان.. ويبقى من يدير بعض أجنحة الكارثة من الخارج يعمل على تأجيج النار من الخارج لأنه لا يجرؤ على دخول الأرض السورية ولا على مواجهة الشعب بعد أن فقد الحاضنة الشعبية وبقي له الادعاء والاستقواء بالسيف الملون بألف لون والملوث بألف ولاء، ويبقى من يعمل على إدارة المعارك من الداخل في محنة الحصار من الخارج والإرهاب في الداخل، يسمع ولا يسمع، يرى ولا يرى.. بينما صرخات الشعب تعلو وتعلو، وواجبات الدفاع عن الذات والمكتسبات وبعض الصفات تفرض نفسها في معركة موت أو حياة..
فيا الله كيف يسمح نفر من البشر، باسم الحكم والمعارضة، أو بأي اسم وتحت أية ذريعة، كيف يسمحون لأنفسهم بأن يصادروا حق شعب في الحرية والحياة والأمن والعيش الكريم، وحق أجيال قادمة في اختيار مستقبلها.؟!، وبأي حق وتحت أية شرعية أو مشروعية أو شريعة أو قانون يتم ذلك، ويستمر ذلك.؟! ويا الله كيف يُتاح لنفاق عابر لكل القيم والعقائد والآفاق، أن يسود ويتحكم ويتجذر ويتجبر وأن يجر الناس إلى الموت ويحكم على العمران بالخراب.. ومع ذلك يبقى أصحابه سادة وقادة وحكاماً وزعماء وحماة للشعوب والقيم، وربما قدوة ورموزاً وموضع احترام.. أهو الضعف يتعبد في محراب القوة، أم هو الإجرام يرتفع بصاحبه فوق العدالة وكل الأحكام كلما كبرت الجرائم وعظمت الخطايا.؟! فيا الله إذا كان أولئك هم الشر ولا يخافون ولا يستحون ويمارسون تكوينهم ولا يرعوون.. فمَن للخير وللضعفاء والبسطاء والأتقياء والأنقياء الذي يستباحون ولا يستبيحون الدم والعرض ولا يهدرون حياة البشر وحقوقهم وكرامتهم؟! ويا الله.. إذا سادت شريعة الغاب بلداناً واستباحت شعوباً، ونزع كل حي من الأحياء إلى الدفاع عن نفسه ودفعته غريزة البقاء لديه إلى مقاومة الآخر.. فكيف سيكون العالم وكيف ستكون الحياة؟! سبحانك اللهم ما فعلت هذا عبثاً ولا خلقته باطلاً .

علي عقلة عرسان* كاتب وأديب سوري

Related posts

سكوت ريتر: لماذا لم أعد أقف مع إسرائيل؟ ولن أقف معها مرة أخرى

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري