لأول مرة تقدم قوات الدرك على اقتحام مبنى جريدة الرأي الحكومية، مما يؤشر إلى عمق الأزمة الصحفية والإعلامية الأردنية الغارقة في الأزمات والتردي المالي، ودخولها مرحلة يمكن أن يطلق عليها “بداية النهاية لعصر الصحافة الأردنية”، فجريدة العرب اليوم أعلنت إفلاسها وتوقفت عن الصدور، وجريدة الدستور غارقة في الديون التي تجاوزت 12 مليون دولار، وجريدة الغد تعاني من صعوبات اقتصادية بدورها، وأخيرا دخلت جريدة الرأي الحكومية في أتون هذه الأزمة الخانقة التي دفعت الصحفيين والعاملين فيها إلى تنفيذ إضراب يعتبر الأول من نوعه في الصحيفة التي كانت تعتبر “درة التاج للصحافة الأردنية”، للدور المهم الذي لعبته في الحياة السياسية، أو كما وصفها الوزير الأردني السابق الدكتور صبري اربيحات على صفحته على الفيسبوك: “الرأي، وللمرة الأولى، تلد رأياً آخر.. منذ أكثر من أربعة عقود، والرأي هي الرأي، تقدم خطاب الدولة وتحتل المواقع الأولى، يديرها الشباب (المخلصون) بصرف النظر عن الكفاءة، وبوضوح أكثر لم تكن الكفاءة المهنية أو الشهادة الجامعية أو القدرة على الكتابة شرطا أساسيا أو ثانويا لتكون مسؤولا في الرأي، ومع ذلك بقيت الرأي الصحيفة الأردنية الأولى فهي سجل الموت، وصحيفة الإعلانات الحكومية، ونافذة المحرر السياسي.. من الرأي تنطلق الحملات الإعلامية على الدول وعلى الأشخاص، ولمحرري الصفحات الرئيسية تعطى تعليمات طمس الشخصيات التي لا تعجب الدوائر الأمنية”.
ولذلك فإن تمرد الصحفيين في جريدة الرأي “الحكومية” ظاهرة تستحق الدراسة، فهذه الصحيفة ليست حالة عابرة، فهي مؤسسة من النوع الثقيل، وكثير من صحفييها ممن يسمع كلامهم بوضوح من قبل الملك، وأهم العاملين في إعلام ديوان الملك كانوا من صحفيي “الرأي” أصلا، إلى جانب بعض رؤساء الديوان السابقين والوزراء والمديرين، مثل مدير التلفزيون الحالي رمضان الرواشدة، ومدير وكالة الأنباء الأردنية الحالي فيصل الشبول، والقائمة تطول.
اعتصام الصحفيين والعاملين في جريدة الرأي الذي بدأ قبل 38 يوما، تطور إلى إضراب شامل أمس في خطوة تؤكد تصميهم على الحصول على مطالبهم الستة وهي: رحيل رئيس وأعضاء مجلس الإدارة كافة ومدير عام المؤسسة، فتح تحقيقا فوريا بمشروع المطبعة وشركة التوزيع، وكف يد الحكومة عن التدخل في الرأي، وإقرار علاوة خطورة المهنة للعاملين في المطابع، وتنفيذ كافة بنود الاتفاقية العمالية الموقعة عام 2011: بصرف راتب المكافأة السنوي فوراً وتثبيت موعد سنوي لصرفه في الربع الأول من كل عام والمباشرة الفورية بإعادة هيكلة رواتب العاملين في المؤسسة بموجب الاتفاقية، فتح ملف كتاب الأعمدة من حيث الرواتب وأسس التعيين وملف التعاقد مع كتاب ممن أحيلوا إلى التقاعد وإنهاء هذه العقود”.
أحد هذه المطالب تحقق فعلا يوم أمس إذ تمت إقالة مجلس الإدارة بكامله وتعيين مجلس جديد برئاسة وزير الداخلية السابق مازن الساكت وهو الأمر الذي رفضه الصحفيون الذين قاموا بطرده من مبنى الصحيفة والهتاف ضده وضد الحكومة التي طالبوا بإسقاطها.
من خبرتي في “الرأي” التي عملت فيها سابقا أنها رقم يصعب كسره أو تجاوزه، وأن غالبية الصحفيين العاملين فيها من النوع “صعب المراس والتدجين”، فهم لا يحسبون على المعارضة، فلأول مرة تحجم “الرأي الحكومية” عن نشر أخبار رئيس الوزراء والحكومة، ولأول مرة تنضم نقابة الصحفيين لمطالبة كل الصحف الأخرى بحجب أخبار الحكومة.
وإذا كان الميت لا يعتبر ميتا في الأردن إلا إذا نشر نعيه في “الرأي”، فمن المؤكد أن الحكومة التي تحجب الرأي أخبارها ستسقط فهذا الحجب بمثابة “نعي صامت”، وأتوقع أن هذا هو مصير حكومة النسور الأقل شعبية في تاريخ الحكومات الأردنية.