طبيعة الدولة في الفكر الإسلامي السياسي «دولة مدنية» بذاتها منذ نشأتها الأولى، فالإسلام يوجه المجتمع كله بخطاب جماعي من أجل أن يحسن إدارة نفسه وفقاً للمبادئ الإدارية السليمة، و يحسن اختيار أصحاب السلطة والمسؤولين ممن تتوافر فيهم معايير الاختيار الصحيح التي تتوافق مع العقل والمنطق والخبرة.
والإسلام ينفي وجود «رجال الدين» الذين يحتكرون المعرفة والعلم والفقه، وينفي منطق الوصاية على الدين، ومنطق الوصاية على الحق، ومنطق الوصاية على السلطة، ومنطق الوصاية على المجتمع، من أي جهة كبيرة أو صغيرة؛ شعبية او رسمية، بل ينبغي معرفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، إن المجتمع كله هو صاحب الولاية العامة، بموجب الخطاب التكليفي العام الذي جاء بصيغة العموم الذي يخاطب جميع المكلفين (العقلاء) على درجة سواء.
الإسلام يرسى مجموعة من المبادئ العامة والقواعد الرئيسة، والأصول العريضة، ويبني منظومة القيم، التي توجه العقل، وتنظم سلوك المجتمع البشري وفقاً لمرجعية عليا متفق عليها، ويأمر باستنهاض العقل والهمة للوصول الى أفضل ما توصل اليه البشر عن طريق الاجتهاد وبذل أقصى الوسع بعمليات البحث والاستقصاء وسلوك أعلى درجات التطور والتحسين من أجل توفير أفضل مستويات الأمن الجمعي، وأعلى درجات الرفاه والعيش الرغيد، والعمل على توفير الوقت والجهد، وتقليل منسوب الشقاء في الحياة.
لذلك من المستغرب و المستهجن أن يتسلل الى بعضهم مفهوم الدولة الدينية الذي عرفته اوروبا في القرون الوسطى !! بمعنى أن السلطة فيها لرجال الدين أو المؤسسة الدينية، لأن التاريخ الإسلامي ما عرف المؤسسة الدينية ابتداء، بل المعروف أن الخلفاء الذين كانوا يتولّون السلطة، كانوا أفراداً عاديين، لا يمتازون عن غيرهم بميزة دينية أوفقهية، بل كان في المجتمع من هو أكثر منهم علماً، وأعمق فقهاً، فلا يستطيع أحد أن يجعل أي خليفة عباسي فوق مرتبة أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو جعفر أو زيد في العلم والفقه، ولم يكن لأبي حنيفة ولا أي إمام من أئمة المذاهب المعتبرة أن يزعم أنه أولى بالسلطة لمرتبته الفقهية أو الدينية.
فالدولة بكل عناصرها المدنية، السلطة، والشعب، والتشريعات، كلها كانت خاضعة لسلطة الشعب العليا، التي تملك اختيار الحاكم وتملك حق تقويمه ومراجعته وعزله عندما يستحق العزل.
أسس الاختيار لخصها القرآن بمعيارين رئيسين هما: القوة والأمانة، فقال على لسان ابنة الرجل الصالح بخصوص موسى عليه السلام قبل النبوة: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»، فالقوة والأمانة يتسابق فيهما كل مواطني الدولة بلا استثناء ودون أي تمييز أو تفرقة تخل بمبدأ العدالة والمساواة المطلوب.
وبناءً على ما سبق فإنه لا وجود للأحزاب الدينية في الإسلام، فكما أن الدولة مدنية، فالأحزاب يجب أن تكون مدنية كذلك، بمعنى أشد وضوحاً: الأحزاب عبارة عن مجموعات من المواطنين الذي يشتقون برامجهم من مبادئ الإسلام وقواعده وأصوله وقيمه، وليسوا أوصياء على الإسلام ولا يحتكرون معارف الإسلام وعلومه، ولا يدّعي أحد منهم ذلك، لذلك فإن حسن البنا الذي أسس جماعة الإخوان المسلمين هو خريج دار العلوم، وحسن الهضيبي كان مستشاراً في علم القضاء والقانون، وعبدالقادر عودة متخصص في علم القانون، وسيد قطب متخصص في اللغة وآدابها، وعمر التلمساني ليس من حملة العلوم الشرعية ولا مصطفى مشهور ولا الهضيبي الابن، ولا محمد بديع المتخصص في العلوم البحتة، ما يؤكد أن الجماعة ليست حزباً دينيّاً، وهي لا تدّعي ذلك ولا ينبغي ان تكون كذلك،ولا أي حزب أو حركة اسلامية او غير اسلامية.