سامي حامد/الأزمة المالية الأميركية .. دروس وعبر!!

السياسة مصالح وليست مبادئ .. ولكن حين تتعارض المصالح مع المصلحة العليا للدولة.. تترك الأحزاب مصالحها الضيقة جانبا للوقوف بجانب الدولة للخروج من أزمتها .. هذا هو الدرس المستخلص من أزمة الميزانية التي عانت منها الولايات المتحدة مؤخرا ودامت 16 يوما إلى أن شهدت انفراجة في اللحظات الأخيرة، بعد أن نجح الحزب الديمقراطي الحاكم والجمهوري المعارض في إنقاذ أميركا من إشهار إفلاسها للمرة الولى في التاريخ، واضعين حدا لمعركة سياسية استمرت أسبوعين حيث وافق الكونجرس بمجلسيه “النواب والشيوخ” على قانون يقضي برفع سقف الدين الحكومي، وذلك قبل ساعات قليلة من انقضاء المهلة النهائية لإعلان إفلاس أميركا لتستأنف الحكومة الفيدرالية أنشطتها ويعود مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين لأعمالهم بعد إغلاق جزئي بدأ منذ الأول من أكتوبر الجاري!!
الرئيس الأميركي باراك أوباما وحزبه الديمقراطي الحاكم الذي تعرض لضغوط قبل حل أزمة رفع سقف الدين الحكومي من جانب الحزب الجمهوري المعارض أشاد بالاتفاق والتوصل إلى تسوية في اللحظات الأخيرة، مؤكدا استعداده للعمل مع الجميع على أية فكرة تهدف إلى تطوير الاقتصاد وخلق وظائف جديدة، وبأنه مقتنع أنه بإمكان الديمقراطيين والجمهوريين أن يعملوا معا من أجل تقدم الولايات المتحدة .. وهكذا نجت واشنطن من أزمة كادت تنذر بوقوع كارثة على الاقتصاد العالمي، كانت بكل تأكيد ستهزه هزة مدوية قد تعصف باقتصاديات دول عديدة، ولتفلت الولايات المتحدة من إعلان إفلاسها لأول مرة في تاريخها!!
لقد تعرض الرئيس أوباما إلى ضغوط من جانب معارضيه الجمهوريين في بادئ الأمر، ولولا موافقة الحزب الجمهوري المعارض على تسوية للأزمة في اللحظات الأخيرة لكانت الولايات المتحدة غير قادرة على تسديد مستحقات ديونها لأول مرة في تاريخها، ولكانت الحكومة الفيدرالية ستصبح بلا سيولة، الأمر الذي كان سيؤدي إلى أزمة مالية عالمية أشبه بالأزمة التي عانت منها أميركا العام 2008 ـ 2009 في آخر أيام بوش الابن الذي سلم مهام الإدارة إلى الرئيس أوباما والدولة على شفا الإفلاس .. ما يعني أن الحزب الجمهوري المعارض نحى خلافاته مع إدارة الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي جانبا حينما شعر بخطورة الموقف الذي تتعرض له الدولة ورضخ في نهاية، الأمر إلى المصلحة العليا للولايات المتحدة حتى وإن كانت تتعارض مع برامجه ومصالحه وأهدافه!!
إن ما فعله الحزب الجمهوري درس في العمل الحزبي القائم على أسس ديمقراطية سليمة .. فالديمقراطية لا تعني أن تعارض دائما مثلما هو حال الأحزاب في المنطقة العربية ومصر مثالا صارخا لهذا الأمر حيث تتصارع الأحزاب فيما بينها ولو على حساب المصلحة العليا للدولة وأمنها القومي .. وهذا هو ما تشهده مصر منذ اندلاع أحداث الـ25 من يناير العام 2011 وسقوط نظام الرئيس مبارك وحتى وقتنا هذا .. فالخلاف هو سيد الموقف .. وإقصاء الآخر هو الطريق الوحيد لامتلاك السلطة .. ولنا في تجربة حكم جماعة الإخوان المسلمين نموذجا صريحا على تملك السلطة وإقصاء الآخرين حتى من كانوا حلفاء لها أبعدتهم الجماعة وقامت بتهميشهم واستفردت وحدها بالحكم ما أدخلها في صراعات مع كل مؤسسات الدولة!!
نفس الأمر لا يزال يتكرر حتى الآن .. فالصراع مستمر بين السلطة الحاكمة وجماعة الإخوان التي باتت في مربع المعارضة … كل منهما يريد إقصاء الآخر حتى وإن كان هذا الأمر يشكل تهديدا للأمن القومي ويضر بالمصلحة العليا للدولة .. فالقائمون على الحكم يرون أن جماعة الإخوان أجرمت في حق الدولة والشعب ويجب إقصاؤها بعد أن لجأت إلى استخدام العنف، وهو مطلب تؤيده كافة الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية .. بينما جماعة الإخوان ترفض الانصياع إلى صوت العقل والدخول في حوار وطني، بل تصر على (عودة الشرعية) والدستور المعطل أولا ما يعني أن الطرفين لا يريدان أن يلتقيا أبدا .. وكل طرف يريد إقصاء الطرف الآخر حتى ولو أدى هذا إلى انهيار الدولة نفسها وليس مجرد إفلاسها!!
إن سبب الأزمة التي كادت أن تعصف بالولايات المتحدة هو أن الحزب الجمهوري كان يرفض مشروع إقرار الموازنة بسبب مشروع الرعاية الصحية الذي قدمه الرئيس أوباما، بينما الأخير يصر على الاتفاق أولا على رفع سقف الدين الحكومي قبل التفاوض بشأن بنود الميزانية الأخرى، في إشارة إلى التخفيضات التي يطالب بها الجزب الجمهوري في بند ميزانية الرعاية الصحية إلى أن توصل الحزبان الديمقراطي الحاكم والجمهوري المعارض إلى اتفاق في اللحظات الأخيرة لإنقاذ سمعة بلدهم يتضمن إعطاء الضوء الأخضر لميزانية قصيرة الأجل تمتد حتى الـ15 من يناير المقبل, وزيادة سقف الدين بشكل يسمح بسداد التزامات الحكومة حتى الـ7 من فبراير المقبل, ووضع إضافة طفيفة تشير إلى ضرورة التأكد من دخل الأفراد الذين يحق لهم الحصول على مساعدة الحكومة لسداد قيمة التأمين الصحي الإلزامي، وهي إشارة رمزية لإرضاء الجمهوريين في مجلس النواب .. وأخيرا تشكيل لجنة عليا من نواب الحزبين في الكونجرس لتسوية الخلافات المتعلقة بالاتفاق طويل الأمد بحلول الـ13 من ديسمبر المقبل!!
إن ما شهدته الولايات المتحدة من انفراجة ولو مؤقتة لأزمتها المالية ما هو إلا نموذج ناجح للتعاون الذي يجب أن يكون بين الحكومة والمعارضة .. نعم هناك أمور وخلافات كثيرة بين الحزبين، ولكن تبقى مصلحة أميركا وسمعة أميركا فوق كل اعتبار حتى ولو خسرت 24 مليار دولار خلال 16 يوما ثمنا لهذه الأزمة .. ليت الأحزاب والجماعات في مصر والمنطقة العربية تتعلم شيئا من إدارة مثل هذه الأزمات بدلا من التناحر على كل شيء وأي شيء وممارسة سياسة إقصاء الآخر .. وهي الممارسات التي تسببت فيما فيه مصر الآن من ضعف وهوان!!

سامي حامد كاتب وصحفي مصري 
Samyhamed65@yahoo.com

Related posts

ماذا لو فاز ترمب … وماذا لو فازت هاريس؟* هاني المصري

الأمم المتحدة…لنظام عالمي جديد ؟* د فوزي علي السمهوري

ما الخطر الذي يخشاه الأردنيون؟* د. منذر الحوارات