بدا واضحاً خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي ومعهد التمويل الدولي التي حضرتها، أخيراً، في واشنطن وسط عاصفة من الجدل السياسي بشأن رفع سقف الدين الأميركي وحالة التخبط المالي الاقتصادي التي يشهدها أكبر اقتصاد عالمي، بدا واضحاً أنه ربما على العالم أن يبحث عن قيادة اقتصادية جديدة أو أن يكون أقل أمركة واعتماداً على الاقتصاد الأميركي خلال المرحلة المقبلة.
فرغم ما تحقق من رفع سقف الدين الأميركي وفتح الحكومة الأميركية أبوابها بعد جدال وجذب كبيرين، فإن الأزمة لم تنته بعد وستعود إلى الواجهة قريباً. ما حدث، لا شك، أصاب الجميع ممن حضروا هذه الاجتماعات الدولية بحالة من القلق – وربما الذعر أحياناً – من مستقبل الاقتصاد العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة وهي غير قادرة على التعامل مع سقف ديونها أو استمرارية عمل منشآتها الحكومية.
لقد كان على القادة الأميركيين أن يتفقوا سريعاً على رفع سقف الدين، ولكن الرسالة التي أوصولها إلى العالم تتعدى في سلبياتها إيجابية الاتفاق الذي تم. لم تمر الولايات المتحدة الأميركية بأزمة ثقة كالتي تعيشها اليوم. إن صورة الولايات المتحدة الأميركية كركيزة للاقتصاد العالمي باتت مهتزة ومحط شك. فالتباين السياسي العميق بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وما ظهرا عليه كطرفين متناحرين يسعيان إلى اقتناص الفرصة لتصفية الحسابات فيما بينهما، يدل على وجود أزمة في القيادة وصناعة القرار الأميركي، حتى أن البعض وصف ما حدث هناك بأنه أزمة ثقة في القيادة الحالية. ولا نتحدث هنا عن قرارت داخلية تتعلق فقط بالشعب الأميركي، بل عن قرارات تحدد وجهة الاقتصاد العالمي وتطول مئات آلاف المستثمرين وشعوب العالم بأسره.
يوم واحد.. وتذهب الثقة
يدرك القادة الأميركيون أن الثقة تشكل أحد أبرز عوامل القيادة، كما هي شرط من شروط الاستقرار، ولكنهم ربما لا يدركون أن الثقة لا تحتاج إلى أكثر من يوم واحد لأن تنكسر وتنهار. فجميع أزمات أسواق الدين عبر التاريخ في العالم نجمت عن انهيار الثقة. وهذا أمر بديهي، لأن الثقة هي أساس التعاملات المالية والاقتصادية. وما فعله القادة الأميركيون هو أنهم خذلوا العالم في الثقة التي منحها لهم من خلال تقديم حساباتهم السياسية على المصلحة العالمية.
إن المشكلة في رأيي تكمن في أن التضارب بين المصالح الداخلية للولايات المتحدة الأميركية ومصالح الاقتصاد العالمي قد بلغ حداً يدعو إلى مراجعة تأثير الولايات المتحدة الأميركية على الساحة الاقتصادية العالمية. فمن غير المقبول أن يهدد مشروع قانون داخلي- على نسق مشروع قانون الرعاية الصحية الذي تقدم به الرئيس الأميركي باراك أوباما، والذي يتربط بالشعب الأميركي حصراً – ما تبقى من استقرار أو حتى ما تبقى من أمل في استقرار الاقتصاد العالمي. وقياساً على ذلك، من غير المقبول أن يكون سيناتور أميركي ما لا ينظر إلى أبعد من حديقة منزله مسؤولاً عن اتخاذ قرار يطول ملايين البشر حول العالم، ويهدد عملهم ولقمة عيشهم واستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي.
كلام صادم.. وحاد
قد يكون هذا الكلام حاداً وصادماً، ولكن العالم لم ينته بعد من تسديد فاتورة أزمة الرهون العقارية الأميركية، لكي يبدأ بتسديد فاتورة جديدة. كما أن العالم لا ينتخب الساسة الأميركيين ولا يشارك في صناعة قرارهم، لكي يكون مسؤولاً إلى هذا الحد عن تبعات هذا القرار. وإذا كانت الأزمة المالية العالمية المستمرة والمتجددة قد ألقت الضوء على أهمية البحث (ولو من دون جدوى حتى الآن) عن بديل للدولار كعملة احتياط عالمية، وأهمية إصلاح نظام وحصص التصويت والتمثيل في المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فإن تراجع الثقة في قدرة الولايات المتحدة الأميركية على قيادة الاقتصاد العالمي قد يطرح إشكالية موقع الولايات المتحدة في هذا الاقتصاد ومدى تأثيرها عليه.
لطالما شكّلت الولايات المتحدة الأميركية المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي. أما اليوم، فالخارطة الاقتصادية العالمية تتغير مع بروز دور أكبر للاقتصادات الناشئة، رغم أن هذا الدور ما زال غير مترجم في صناعة القرار الاقتصادي العالمي. كما أن الموقع القيادي الذي تحتفظ به الولايات المتحدة على الساحة العالمية لم يعد قائماً على قوة اقتصادها وديناميكيته، بل بات يرتكز أكثر فأكثر على غياب البديل. وفي هذه الأزمة، كما كنت قد أشرت في مقال سابق، فإن الولايات المتحدة ستخرج منها «منتصرة» ليس بفضل قوة اقتصادها، بل لأن العالم سيخرج منها مهزوماً.
الصين معنية أولاً
إن أزمة الثقة التي تصيب الولايات المتحدة الأميركية اليوم يجب أن تدفع العالم إلى التفكير جدياً في البديل. ورغم صعوبة الاستغناء عن ثنائية الصين – الولايات المتحدة من قبل الطرفين، فإن الصين تعي أن انكشافها على المخاطر الأميركية بات محل تهديد لها أولاً، وهو ما قد يدفعها إلى أن تكون على رأس الباحثين عن هذا البديل، ولكن نضوج هذا البديل يحتاج إلى وقت طويل. وبالتالي، فإنه ليس من المتوقع أن تفقد الولايات المتحدة الأميركية قريباً موقعها القيادي في الاقتصاد العالمي.
باختصار، إن أزمة الثقة بالولايات المتحدة الأميركية تشير إلى أن ثمة تغييراً يجب أن يحدث: على الولايات المتحدة أن تكون أكثر عولمة في صناعة القرار الاقتصادي، وعلى العالم أن يكون أقل أمركة أو كما قلت في واشنطن It is time to de-americanize the global economy.
ابراهيم شكري دبدوب
* الرئيس التنفيذي لمجموعة بنك الكويت الوطني
عضو مجلس إدارة معهد التمويل الدولي ومجموعة بريتون وودز العالمية في واشنطن