تفترض الثورة، أية ثورة، أنها بإطاحتها النظام القائم تطيح وضعاً شاملاً كاملاً. ذاك أن النظام مصدر ذاك الوضع، صانعه ومهندسه. وكلما كانت السلطة أكثر استبدادية، وأشد دمجاً لمستويات الوجود الاجتماعي وإمساكاً بها، كان الوضع الذي يخضع للتغيير أشد اتساعاً وعمقاً.
في هذا المعنى لم تشذ الثورة السورية عن ذاك المبدأ العام، هي التي واجهت نظاماً شبه توتاليتاري يستولي عنوة على معظم مصادر الحياة وتجديدها.
الآن، بل منذ أشهر، بدأ يتغير هذا الوضع. فلأسباب عدة، داخلية وخارجية، تناولها كتاب ومحللون سوريون وغير سوريين، لم يستقر الوضع على هيئة ثورة تقضم السلطة والأرض مقابل نظام يخسر سلطته ويفقد أرضه. لقد حل، في المقابل، تعدد وتنازع في مراكز النفوذ وفي السيادة على الأرض، ما بين السلطة و «الجيش الحر» والقوى الإسلامية المتطرفة، وهي كثيرة ومتضاربة، والأطراف الكردية.
هكذا غدت الثورة تواجه، في وقت واحد، قوة النظام الأمنية الموروثة عن الأمس، وضعفه المجتمعي، وبالتالي السياسي والأمني، الناشئ راهناً. وقد يجوز القول، في هذه الحدود، إن الثورة لم تعد ثورة حين كف النظام عن أن يكون نظاماً يستحوذ وحده على صناعة الواقع والوقائع.
وصورة كهذه تغير جذرياً وجوهرياً في طبيعة الثورة وفي المهمات المطروحة عليها، إذ تضعها في مواجهة كل تلك القوى التي تتقاسم السلطة والأرض، لا في مواجهة النظام وحده. لا بل حتى لو اكتمل إسقاط النظام، وهو دائماً شرط شارط لكل تغيير، بقيت الثورة، والحال على ما هي عليه، تصارع أعداء يسيطرون على أجزاء أساسية من السلطة والأرض. ولما كان معظم هؤلاء الخصوم ذوي ألوان دينية أو طائفية أو إثنية خاصة بهم، بات من المحسوم تغلب «الحرب الأهلية» على «الثورة» داخل المكون العنفي الجامع بينهما.
وغني عن القول إنه حتى في الحسابات العسكرية والتقنية الصرفة سيكون انتصار الثورة مستبعداً جداً. ذاك أنها لم تستطع حسم الصراع العسكري مع النظام وحده، وإذا كان مؤكداً أن دعم روسيا وإيران و «حزب الله» لبشار الأسد قد لعب دوراً في هذه الحصيلة يكمل الدور الذي لعبه ضعف المساعدات التي حظيت بها الثورة، يبقى أن العاملين هذين لا يحجبان قدرات فعلية استعرضها ذاك النظام، إن لجهة نهوضه على تماسك أهلي مضمون، أو لجهة إبقائه على وحدة الجسم الأساسي لأدواته القمعية. فإذا صح ذلك، بات صحيحاً القول إن القضاء على السلطة، وفي الآن نفسه القضاء على القوى الإسلامية، لا سيما وقد أتيح لها أن تنمو وتكبر وتتعزز بمقاتلين أجانب، غدا من شبه المستحيل.
وهذه مأساة سورية ومأساتنا في هذا المشرق العربي.
لقد كتب ياسين الحاج صالح على صفحته في «الفايسبوك» مودعاً سورية «مؤقتاً»، ومعلناً مغادرته إياها. والحاج صالح ليس فقط أحد ألمع الكتاب العرب، لا السوريين وحدهم، بل هو أيضاً الأقرب لأن يسمى منظر الثورة السورية ومتابع تطوراتها وناقد إخفاقاتها وأحد الأصوات الضميرية في نقله معاناة السوريين ورغباتهم. وانتصار الثورة هو ما يضع أفضل أبناء سورية، وياسين في عدادهم طبعاً، في موقع القرار عن مستقبل بلدهم وشعبهم. لكنْ حين يُضطر الحاج صالح إلى المغادرة فهذا يعني، للأسف، أن سورية لن تكون مكاناً للحياة. لهذا يجوز الشك كثيراً في أن يبقى الوداع الموقت موقتاً.